ونحن نوضِّح هنا هذا الأمر ، طالبين من
القارئ الكريم
أن يتحلّى بالصبر إلى آخر الفصل ؛
لأنّ ما فيه إنّما يعطي النتيجة التي أشرنا إليها من حيث هو مجموع ومنضمّ بعضه إلى
بعض ... لا بما هو جزيئات متفرّقة ومتناثرة ، فليلحظ ذلك ، فإنّه مهمّ جدّاً في تحصيل ما
نرمي إليه .
فنقول :
شواهد من المقدّمة :
يوجد عندي من المطبوع باللُّغة الفارسيّة لهذا الكتاب : (
الملحمة الحُسينيّة ) جزءان فقط ،
لهما مقدّمتان شرحتا عمل المؤلِّف فيهما . وأنا أُورد بعض ما أشار إليه فيهما فيما يلي :
1ـ قد صرّح المؤلِّف في المقدّمة : بأنّه استخرج من
أشرطة التسجيل محاضرات للشهيد مطهّري ،
كان (رحمه الله) قد ألقاها في مناسبات مختلفة ، فجعل المؤلّف هذه المحاضرات في ضمن
الكتاب المعروف باسم ( الملحمة الحُسينيّة ) وهو المنشور والمتداول .
2ـ إنّه يقول : إنّ قسماً ممّا نشره في هذا الكتاب مأخوذ من
أشرطةٍ مسجّلة ، لم يطّلع مؤلِّف
الكتاب عليها ، وإنّما اطّلع على متون مستخرجة منها فقط .
3ـ ويقول : إنّ بعض مطالب الكتاب هي أنصاف محاضرات كان الشهيد قد ألقاها في بعض
المناسبات ، أو في جلسات في بعض البيوت، كان رحمه الله يلقي فيها دروساً فصادف بعضها
أيام عاشوراء ، فاستطرد في طائفة من حديثه ، ومحاضراته إلى شؤون كربلائية وعاشورائية
احتراماً منه للمناسبة ، واحتفاءً بها .
4ـ قد صرّح المؤلِّف ـ أيضاً ـ بأنّه قد أتمّ الجمل الناقصة ،
وأصلح منها ما يحتاج إلى إصلاح .
تصريحات الكتاب تشهد :
أضف إلى ما تقدّم : أنّ كتاب ( الملحمة الحُسينيّة
) نفسه يشهد على نفسه بأنّه ليس من تأليف
هذا الشهيد السعيد ، ونذكر هنا بعضاً من ذلك ؛ فنقول :
1ـ قد تقدّم أنّه يقول : إنّه لم يتصرّف في كلام الشهيد إلاّ في موارد يسيرة تمّم فيها
عبارة ناقصة ، أو أصلح خطأً ما .
2ـ إنّه يصرّح في بعض الموارد في الكتاب ، بأنّه قد لخّص خطبةً بأكملها ، فهو يقول :
( خلاصة خطاب للمؤلّف الشهيد بعنوان الحماسة الدينيّة
) (43) .
والتلخيص يستبطن درجةً عاليةً من التصرّف المباشر ، الذي يحتاج
إلى درجةٍ أعلى من الاستعداد العقلي ، من حيث اعتماده على مستوى من الإدراك للمطالب ، وعلى القدرة على
جمع شتات الأفكار ، وتحقيق قدر من التلاحم ، والانسجام فيما بين متفرّقاتها في نطاق
الصياغة والأداء .
3ـ ثمّ هو يقول ويصرّح في بعض الموارد : بأنّه ينقل عن أوراق كانت للشهيد ، فقد قال في
بعض الهوامش : ( سيتمّ نشر موضوع هذه الأوراق في سلسلة مذكّرات الشهيد
(44) ) .
4ـ ويقول أيضاً : عن القسم العاشر من الكتاب : إنّ هذا القسم عبارة عن
( حواشٍ نقديّةٍ حول
كتاب الشهيد الخالد ) (45) .
5ـ ويقول في بعض الهوامش : ( هكذا ورد في النسخة الخطّيّة للأُستاذ الشهيد
(46) ) .
6ـ ويقول : ( وقد أوردت في هذا الكتاب في فصل : ملاحظات حول النهضة الحسينيّة ، مزيداً
من الأدلّة بهذا الاتجاه . أرجو مراجعة الملاحظتين ( 10 ـ 11 ) بهذا الخصوص
(47) ) .
7ـ ويقول : ( ونحن بدورنا نشير إلى تلك
الاستعدادات في أوراقنا ، التي سيأتي ذكرها في
فصل : ملاحظات حول النهضة الحسينية ، تحت الرقم 38 ) (48)
.
فأين كلّ هذه النصوص من تصريح مؤلِّف الكتاب في جزئيه الأوّلين بأنّهما عبارة عن محاضرات
استُخرجت من أشرطة التسجيل ، وتصريحه في بعض موارد الجزء الثالث : أنّه قد لخّص بعض
خطاباته ( رحمه الله ) .
تعليقنا على النصّين الأخيرين :
أ : انظر إلى كلمة ( أوراقنا ) وكلمة
( في فصل ) وقوله : ( تحت الرقم 38 ) ؛ فإنّ كلّ ذلك
يُشير إلى أنّ الأوراق هي لهذا الذي جمع الكتاب ، وإلى أنّه هو الذي يفصل الفصول ، وهو
الذي يضع الأرقام للفقرات .
ولكنّ تصريحاته السالفة التي ذكرناها ، تُشير
إلى أنّه ملتزم بدقّة النقل عن نسخة الشهيد
الخطّيّة !!
فكيف نوفّق بين الأمرين ؟!
إلاّ إذا قلنا بأنّه قد اعتمد في قسم من كتابه على
مكتوبات للشهيد ، وقد التزم فيها بأمانة النقل ، وأمّا سائر أقسام الكتاب فقد أخذها
من خطب الشهيد ، ومن أوراقه وتعليقاته على بعض الكتب .
ب : وانظر أيضاً إلى قوله : ( نُشير
إلى تلك الاستعدادات ) ؛ فإنّ سياق الكلام يدلّ على أنّ
الذي يورد المطلب هو نفسه الذي يقوم بجمع مادّة الكتاب ويؤلّف بين متفرّقاته ، ويجعل له
فصولاً ، وأرقام فقرات .
ج : وأوضح من ذلك قوله في رقم 5 الآنف الذكر :
( وقد أوردت في هذا الكتاب في فصل :
ملاحظات حول النهضة الحسينيّة ، مزيداً من الأدلّة ) .
فهذا يدلّ على أنّ المؤلّف هو الذي يأتي بالأدلّة ، وهو الذي يوردها في هذا الفصل ، أو في
ذاك .
وهذا المؤلّف نفسه ملتزم بدقّة النقل عن النسخة الخطّيّة !! وهو نفسه يلخّص هذا الخطاب ،
أو ذاك !!
شواهد أُخرى من الكتاب :
ثمّ إنّ مَن يراجع كتاب الملحمة يخرج بحقيقة : أنّ الكتاب لا يمكن أن يكون من تأليف
الشهيد مطهّري (رحمه الله) ؛ إذ لا يمكن لمفكرٍ يحترم نفسه ، وقد بلغ هذا المقام الرفيع
من المعرفة ، والخبرة بالشأن الثقافي ، وفنّ التأليف ، أن يقدّم للناس كتاباً بمواصفات
كتاب ( الملحمة الحُسينيّة ) .
ونستطيع أن نلخّص بعض ما نرمي إليه ضمن النقاط التالية :
أولاً : إنّ طائفةً من النصوص قد جاءت بطريقة غير مألوفة
، فقد وردت في الكتاب على ثلاثة
أنحاء .
أحدها : إنّه أورد كلاماً كثيراً للعقّاد ، وللصالحي ، ولغيرهما
، بالإضافة
إلى نصوصٍ
كثيرةٍ هنا وهناك أيضاً ، ولكنّه لم يعلّق عليها بشيء ، فلماذا ؟!
الثاني : إنّه يورد أحياناً نصوصاً ويعلّق عليها ، ولكنّها تعليقات مجتزأة ، وموجزة جدّاً ،
وقد جاءت على شكل نُتَفٍ متناثرةٍ ، أو تعليقات تحتاج إلى مزيدٍ من المعالجة ؛ لإنضاج
نتائجها بشكل حاسم وقويّ . وهذا كثير أيضاً ...
الثالث : إنّه يفيض في تحليل نصوصٍ أُخرى أيضاً ، ويوفيها البحث والمناقشة بما لا مزيد
عليه ...
فلماذا هذا التفاوت والاختلاف في المعالجة ومستوياتها .
ثانياً : إنّ المعروف عن الشهيد السعيد العلاّمة المطهّري : أنّه حين يطرح الشبهة فإنه
يلاحقها بالنقد القوي ، وبالنقض والإبرام ، ويشحن ذهن القارئ أو السامع بالشواهد
والدلائل ...
ولكنّنا نرى في بعض فصول هذا الكتاب كمَّاً كبيراً جدّاً من التساؤلات والشبهات
الحساسة إلى درجة كبيرة قد طرحت ، من دون أن يقدّم أيّة إجابة عليها
(49) .
وقد سردت على القارئ بطريقة تجعله يستفظع الأمر ، وينبهر أمام عددها الكبير ، ويسقط
في مواجهتها ، ويأخذ عليه إتقانها ، وتفريعاتها الحاصرة كلّ المهارب والمسارب ، حتّى
يقع فريسة الحيرة القاتلة ، وتلج من ثمّ الشكوك في عقله وفكره ، دونما سدود ، أو حدود ،
فتفتك في يقينيّاته ، وتعيث فساداً فيما لديه من مسلّمات إيمانيّة ، فطريّة ، وعقليّة ،
ووجدانيّة .
ثالثاً : إنّ الكتاب يعاني من خللٍ كبيرٍ في سبك وترصيف مطالبه ، فتارة تظهر المطالب
فيه بمثابة كشكول ، حيث تُذكر الفكرة القصيرة والصغيرة إلى جانب المفصَّلة والكبيرة
، مع
عدم وجود أيّ ربط بينهما .
وأُخرى تظهر الفكرة في حلّة الخطابة والخطابيّات .
وثالثةً يظهر عليها أُسلوب تأليف وتصنيف له منهجيّته ، وأهدافه ، يتميّز بالموضوعيّة والرصانة
...
وبعبارةٍ أخرى : تأتي المطالب تارةً على شكل نُتَفٍ وتعليقات ، وأُخرى على شكل بحوثٍ
وتحقيقات ، وثالثةً على شكل خطابةٍ وخطابيّات .
ثمّ إنّك تارةً تراه يورد نصوصاً مختلفة ، ومن دون تعليق ، وأُخرى يوردها مع تعليقات .
وتارةً تأتي التعليقات موجزةً ، وتارةً تأتي مطوّلةً مُسْهبة .
وبينما هو : يوجز إلى درجة الإخلال ، تجده يطنب ويسهب
إلى حدّ الإملال .
كما أنّه تارةً يُجيب على كلّ سؤالٍ يثيره مهما كان بسيطاً ، أو غير بسيط ، بل ولو كان في
غاية التعقيد .
وأُخرى يطرح عشرات الأسئلة الهامّة جدّاً ، ولا يجيب على شيءٍ منها
...
رابعاً : أضف إلى ذلك كلّه ، أن هذا الكتاب يعاني من مشكلة التكرار لبعض مطالبه بكلّ
تفصيلاتها ، وبمختلف نصوصها ، وتقسيماتها ـ تقريباً ـ رغم أنّها تستغرق صفحات كثيرة .
طريقة عمل مؤلِّف الكتاب :
قد اتّضح ممّا قدّمناه وفصّلناه : أنّ المؤلِّف حسبما قال وصرّح ، وكذلك حسبما أظهره لنا
فعله ووضَّح ، قد جرت طريقته وفق ما يلي :
1 ـ إنّه قد أخذ بعض المحاضرات عن أشرطة التسجيل .
2 ـ قد أخذ بعض أنصاف المحاضرات ـ أيضاً ـ كذلك عن
الأشرطة المسجّلة .
3 ـ قد حصل على بعض المحاضرات من أُناس هم استخرجوها من أشرطة التسجيل ، ولم ير هو
تلك الأشرطة .
4 ـ قد لخّص بعض خطابات الشهيد .
5 ـ قد حصل على بعض الأوراق التي كتب عليها الشهيد نُتَفاً من الأفكار .
6 ـ إنّ المؤلّف قد أدخل في كتابه مضمون قصاصات كتب عليها مقاطع لأُناس آخرين ، وربّما
يكون الشهيد نفسه قد جمعها ، إمّا بهدف تفنيدها ، أو بهدف تأييدها ، أو لأجل الاستشهاد
والتأييد بها ، ولكنّه (رحمه الله) لم يعلّق عليها بشيء .
7 ـ قد حصل على أوراق كتب عليها الشهيد مقاطع لبعض المؤلّفين ، وعلّق عليها باختصار ،
وأدخلها في الكتاب أيضاً .
8 ـ قد حصل على أوراق كتب عليها الشهيد أسئلة ، ربّما كان يعدّها للإجابة عليها في
محاضراته ، أو في كتاباته ، وجعلها أيضاً في ضمن الكتاب .
9 ـ قد أضاف المؤلّف عناوين ، وفصًّل وقسًّم فصولاً ، وأقساماً .
10 ـ قد أنشأ المؤلّف كلاماً كثيراً من عند نفسه ، وأدخله في ضمن المطالب التي سجّلها .
11 ـ قد صحّح العبارات الواردة فيما حصل عليه من
المحاضرات التي رأى أنّها بحاجة
إلى
التصحيح ، وأتمّ العبارات التي رأى أنّها تحتاج إلى تتميم .
الشهيد لا يرضى بنسبة الكتاب إليه :
وبعدما تقدّم نقول : إنّنا نكاد نطمئن ، إلى
أنّ كتاباً هذه حالاته ، وتلك هي ميزاته ،
ومواصفاته ، لا يمكن أن يرضى الشهيد السعيد العلاّمة المطهّري بأن يُنسب إليه ، خصوصاً
إذا قيس بسائر مؤلّفاته ، التي تتميّز بالإحكام وبالانسجام .
ونكاد نطمئن إلى أنّه لو كان (رحمه الله) على قيد الحياة ، لم يرض بنشره ، وعليه اسمه
؛
لأنّه ـ وهو بهذه الحال ـ يحطّ من مقامه العلمي الرفيع ، ويسيء إلى موقعه الثقافي
المميّز ، ولكان (رحمه الله) قد زاد عليه ، وحذف منه ، وقلّم ، وطعّم ، وغيّر ، وبدّل الشيء
الكثير ...
وكيف يمكن أن يرضى (رحمه الله) بأن يعمد أحد
إلى أشرطة سُجّلت عليها محاضرات ، كان قد
ألقاها قبل وفاته بسنوات كثيرة ، ويستخرج ما فيها وينشره بعجره وبجره ، وعلى ما هو
عليه ؟! .
ولعلّه وهو يرتجل كلامه ( وارتجال الكلام يختزن في داخله فوات فرص التأمّل والتدقيق )
قد عمّم في مورد التخصيص ، وأطلق فيما يحتاج إلى التقييد ، ولعلّه أطنب في موضع
الاختصار ، وقدّم ما يستحقّ التأخير ، وغفل عمّا كان ينبغي الالتفات والالفات إليه ؟! .
وكيف يرضى (رحمه الله) ، أن يُضمّن كتابه أسئلةً تشكيكيّةً خطيرةً ، دون أن يُشير
إلى الإجابة عنها . وهو الذي كان قد أخذ على نفسه الذبّ عن حياض هذا الدين ، والحفاظ على
حقائقه ، وحراسته من كلّ سوءٍ يُراد به ؟! .
وكيف يمكن أن يرضى بعرض أخطر وأعظم القضايا ، وأكثرها
حساسيّة ، وأبعدها أثراً في
حياة وبقاء الإسلام والإيمان ، من خلال قصاصات تركها ، كان قد كتبها لأغراض مختلفة ،
وفي حالات متفاوتة ؟! .
فهل يرضى أن ترتهن أخطر قضيّة وأغلاها ،
وأعظمها وأسماها ، بهذه القصاصات التي قد لا
تُمثّل الرأي النهائي لكاتبها ؟! .
بل قد يكون ما كتبه عليها هو الرأي الآخر ، لمَن كان يهيّئ للردّ عليهم ، وتفنيد
أقوالهم .
ولعلّه أشار إلى جزء أو بعض الفكرة ، ولم يشر
إلى البعض أو الجزء الآخر منها ،
اعتماداً منه على ذاكرته ، أو على بداهة الأمر في عمق وعيه .
ولعلّه قد سجّل عليها تحفّظات افتراضيّة ، ولم يسجّل عليها سائر ما يدور في خَلَده من
أجوبةٍ أو من حيثيات ، وخصوصيّات ، وشروحات ، ومؤيّدات .
وكلّ ذلك يوضح : أنّه لا يمكن في كثير من المواضع أخذ رأي الشهيد من كتابٍ هذه حاله ،
وإلى ذلك كان مآله ، فلعلّه كان يريد العودة إلى مضامين محاضراته وخطاباته ، وإلى
قصاصاته ؛ ليقلِّم ويطعّم وينقّح ويصحّح ، ويقدّم ويؤخّر ويتأمّل ويتدبّر ، ويضيف
إليها
ما استجدّ له من دلائل وشواهد .
ولعلّه يريد تخصيص بعض عموماتها ، وتقييد بعض مطلقاتها ، خصوصاً فيما جاء على سبيل
الخطابة والارتجال ، فضلاً عن غيره .
ومن جهةٍ أُخرى : لعلّه (رحمه الله) لا يرضيه تلخيص هذا أو ذاك لكلامه ، ويجد
أنّه لم
يستوعب ما يرمي إليه ، وأنّه قد أخلّ بمقاصده .
وربّما لا ترضيه العناوين التي أدخلها الآخرون ، ولا التقسيمات التي مارسها المقسِّمون
، ولا التصحيحات التي أعملوها ، ولا الإضافات التي قاموا بها ، لإكمال عبارة هنا أو
نصٍّ هناك .
إلى غير ذلك من أُمورٍ لا يصعب ملاحظتها على الكتاب المذكور
؟ .
وأخيراً نقول : لقد عوّدنا علماؤنا الأبرار
أن لا ينسبوا بصورة القطع و الحتم ما
يورده حتّى أعلام الأُمّة في تقريرات دروس أساتذتهم إلى أُولئك الأساتذة ؛ فلا ينسبون ما
جاء في أجود التقريرات ـ مثلاً ـ إلى الشيخ النائيني بالقطع والحتم ، بل يقولون نُقل أو
حُكي عن الشيخ النائيني ، أو نُسب إليه قوله .
وذلك لمراعاة احتمالٍ ضئيلٍ جدّاً وهو أن يكون ثَمّة أدنى خللٍ في تلقّي العبارة عنه ، ممّا
قد يُوجب تغييراً في مفاد الكلام .
فكيف يجوز لنا أن ننسب للشهيد المطهّري كتاباً قد ظهرت هناته ، وتلك هي حالاته
وميزاته ؟! مع أنّ الدرس مبنيّ على توخّي الدقّة في التعبير من قِبَل الأُستاذ .
أمّا
القصاصة والمحاضرة والخطاب ، فإنّ الحديث فيه مبني على التسامح والارتجال والعفويّة
، كما
قلنا .
دعوة إلى كلّ المخلصين :
وفي ختام هذا الفصل أوجّه الدعوة إلى كلّ المخلصين ، الذين يحملون همّ حمل
الإسلام
الصافي والطاهر والنقي والدقيق والعميق إلى الناس بأمانة وإخلاص . ويجهدون في هذا
السبيل . أدعوهم إلى أن يوجّهوا بعضاً من اهتمامهم إلى تراث هذا الشهيد السعيد ، وإلى
أن يعقدوا المؤتمرات التي يحضرها المتخصّصون والعارفون لتقييم مؤلّفاته (رحمه الله) ،
وتحديد ما كتبه منها بخطّ يده ، واعتباره هو الذي يمثّل آراءه النهائيّة التي يمكن
الاعتماد عليها في مقام التأييد أو التفنيد .
والاهتمام إلى جانب ذلك ، بالمؤلّفات التي استُخرجت من
أشرطة التسجيل ، ببذل المحاولة
الجادّة للتعرّف على قيمتها الحقيقية ، وقدرتها على إعطاء رأيه العلمي والنهائي ،
المستند إلى الأدلّة والبراهين المعقولة والمقبولة ...
ولعلّ من المفيد هنا القيام بمقارنات فيما بينها وبين المؤلّفات التي تصدّى هو بنفسه
لانجازها بعد تأمّل ، وتروٍّ وتفكير وتدبّر ، ليكون هذا القسم الثاني هو الذي يعطي
الانطباع الحقيقي عن واقع آرائه وتوجهاته.
كما أنّه قد يكون من المفيد أيضاً : التعرّف على معايير التفكير التي كان
(رحمه الله)
يرتضيها حكماً ، ويمارسها عملاً في مختلف الميادين ؛ لتكون هي المرجع في الأخذ ، أو في
الردّ ، لما كان قد ألقاه على الناس بطريقة الارتجال ، التي تسلب معها فرصة التأمّل
والتدقيق ، ويقلّ معها الالتفات إلى ضرورة تخصيصٍ لعامٍّ هنا ، أو تقييدٍ لمطلقٍ هناك ،
وتسجيل تحفّظٍ على هذه القضيّة ورفضها ، أو الالتزام بتلك القضيّة وتأكيدها وتأييدها من
دون أيّ تحفّظ .
إلى غير ذلك من حالات تعتري حالة الارتجال والخطابة ، وتقلّل من درجة الدقّة لدى
الخطيب ، ولينعكس ذلك من ثَمّ على درجة التلقّي والأخذ منه .
وكذلك لابُدّ من دراسة ما نُسب إليه اعتماداً على قصاصات ، أو كتابات مذكّراتيّة تامّة
أو ناقصة ...
وفي جميع الأحوال نقول : إنّ المؤلّفات التي تصدّى هو للتخطيط ثمّ الانجاز لها تبقى هي
الفيصل ، وهي الأساس في الحكم ، ولابُدّ من الانتهاء إليها في الردّ أو في القبول .
نعم ، إنّ لفكر الشهيد العلاّمة مرتضى المطهّري ولكتبه تأثيراً عظيماً في المجال
الثقافي ؛ وذلك يفرض علينا توثيقها ، والتأكد من أنّها تعكس آراءه الحقيقيّة بدقّة
بالغة ، فلابُدّ من ملاحظة كلّ خصوصيّة تدخل في نطاق بلورة الرأي الذي ينتمي إليه .
فالخطابات والمحاضرات لا تمتلك نفس القدرة التي تتوفّر للكتاب الذي توفّرت لمؤلّفه
ـ حال
انجازه ـ أجواء التأمّل والهدوء ، والتروّي والتدبّر .
نقول هذا لنوضّح أنّ كتاب ( الملحمة الحُسينيّة
) الذي عرفنا جانباً من إشكالاته ، واطّلعنا
على بعض هناته ، ليس قادراً أبداً أن يعكس رأي الشهيد السعيد العلاّمة المطهّري في كثيرٍ
من شؤون عاشوراء ...
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ...
الفصل الرابع
المؤرِّخون ، وليلى في كربلاء
مع ما يُنْسب إلى الشهيد مطهّري :
إنّ الحديث عن حضور ليلى أُمّ علي الأكبر
(رضوان الله عليه) قد كثر وفشا بطريقةٍ غير
سليمةٍ ولا مألوفةٍ ، بسبب ما أُثير حول هذه القضيّة من شبهات أنشأت علاقةً ذهنيّةً ونفسيّةً
،
تكاد تكون راسخةً فيما بين هذه القضيّة وبين الأُسطورة والخيال ، والاختلاق والدسّ في
سيرة عاشوراء المباركة …
ولعلّنا لا نبعد إذا قلنا : إنّ هذه القضيّة قد أصبحت عنواناً ومفتاحاً ومدخلاً ،
ومناسبةً للحديث عن الأُسطورة في عاشوراء ، بكلّ عفويّة وراحة بال ، وهي المقال المناسب
لمثل هذه الحال.
ولا نبعد إذا قلنا أيضاً : أن ما ورد في كتاب
( الملحمة الحُسينيّة ) ، المجموع من أشرطة
وقصاصات وكتابات الشهيد السعيد العلاّمة الشيخ مرتضى المطهّري رحمه الله وأعلى مقامه
ودرجته في جنّات الفردوس ، الذي يُعتبر علماً من أعلام الثقافة الإسلاميّة ، ورائداً من
روّاد المعرفة الحيّة والأصيلة في هذا العصر ، نعم إنّ ما ورد في ذلك الكتاب يؤكّد صحّة
القول المعروف : لكلّ جوادٍ كبوة ، ولكلّ عالِمٍ هفوة .
ولعلّ ما نُسب إليه من رأيٍّ حول عدم
حضور ليلى في كربلاء ، هو في هذا الاتجاه بالذات ، ثمّ تبعه على ذلك كثيرٌ من الناس ،
الذين لم يرجعوا إلى المصادر ، ولم يعيدوا دراسة النصوص ولا خطر لهم أن يناقشوا
أقواله وحججه ، ليقفوا على مدى ما فيها من قوّة أو ضعف ، وقوّتها في إثبات ما يرمي إلى
إثباته ، وذلك ثقة منهم بحسن تصرّف هذا الرجل الجليل فيما يتوفّر لديه من معارف ، وبقوّة
عارضته في الاستدلال ، وسلامة وصحّة مقدّماته التي تؤدّي به إلى الاستـنتاج ، وفقاً
للمعايير المعقولة والمقبولة .
ولم يدر في خلدهم أنّ العصمة هي لله سبحانه وحده ، ولأوليائه الأنبياء والأئمّة
الطاهرين ، ولا خطر ببالهم احتمال أنّ الشهيد لم يكن حين تصدّى لهذا الأمر قد استجمع
الوسائل ، ولا استفاد من التجارب ، ولا حصل على المؤهّلات التي تكفيه لإصدار أحكام في
مثل هذه الأُمور ، التي ليست من اختصاصه ، وبالأخص إذا عالجها في أجواء تهيمن عليها
المشاعر المحكومة بمسبقات ذهنيّة ، ترتكز إلى نظرة تشاؤميّة ، ترشح من سوء الظن .
بل يظهر لنا أنّه (رحمه الله) حين كتب ما كتب ، أو حين قال ما قال عن وقوع التحريف في
قضايا كربلاء وعاشوراء ، لم يكن في أجواء تأمّل وتدقيق علمي هادئ ، وإنّما كان يُطلق ذلك
في أجواء جماهيريّة استدرجته إلى القسوة في التعبير ، وإلى إطلاق الأحكام والدعاوى
بطريقة التعميم والتضخيم ، الذي لا يستند إلى قاعدة مقبولة أو معقولة ، فانتهى ـ من
ثَمَّ ـ إلى استنتاجات لاتحتملها ولا تتحمّلها المقدّمات ، ولا تقوم بها الركائز التي
استندت إليها .
وإنّ مراجعة دقيقة للمحاضرات المنسوبة إليه
(رحمه الله) في كتاب ( الملحمة الحُسينيّة )
لكفيلة بأن توضح إلى أيّ مدى ذهب به الاسترسال أحياناً ، حتّى كأنّك لا تقرأ الشهيد
المطهّري بل تقرأ رجلاً آخر ، لم يمارس البرهنة العلميّة الدقيقة ، ولا اطّلع على فنون
الاستدلال وعناصره ، وأركانه وشرائطه .
وقد تقدّم أنّه (رحمه الله) لم يوفّق في كثيرٍ من الموارد
، التي سجّل فيها تحفّظاته من حيث
الوثوق بثبوتها التاريخي ... فإنّ الحقّ في كثيرٍ منها قد كان في خلاف الاتجاه الذي نحا
إليه واختاره ... أو على الأقلّ ، لم يستطيع أن يُثبت ما يرمي إلى إثباته ، بل كان دليله هو
مجرّد الدعوى ، والدعوى هي نفس الدليل ، مع الكثير من التهويلات ، والتعميمات الجريئة
التي لا تُقبل إلاّ بدليلٍ حاسمٍ وقويٍّ ، وبالبرهان العلمي .
ــــــــــــــــ
(43) الملحمة الحُسينيّة ج3 ص293 .
(44) الملحمة الحُسينيّة ج3 ص235 .
(45) نفس المصدر ج3 الفصل الأخير.
(46) نفس المصدر ج3 ص229 .
(47) نفس المصدر ج3 ص174 .
(48) نفس المصدر ج3 ص286 .
(49) راجع: الملحمة الحُسينيّة ج3 من ص 181 حتى ص 186 . |