الصفحة اللاحقةالصفحة السابقة

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

 

الشاهد الأبعد صيتاً :

ومهما يكن من أمرٍ فإنّنا هنا لسنا في صدد محاكمة جميع ما جاء به ، وما رسمه في هذا الكتاب الآنف الذكر ... وإنّما أردنا مجرّد الإشارة والإلماح إلى هذا الأمر ، على أن نكتفي في هذه العجالة بالحديث عن هذا الشاهد الأبعد صيتاً ، والأكثر تداولاً ، وأصبح العصا السحريّة ، الأشدّ استفزازاً ، وهو قصّة حضور ليلى أُمّ علي الأكبر في كربلاء ، خصوصاً حينما يرغب أيّ من قرّاء العزاء بالإشارة إلى هـذه القصّة ، حيث يتكهرب الجوّ وتبدأ الهمسات تعلو وتعلو ، وتنطلق الحناجر لتسجّل تهمة الأسطورة والخيال ، ثمّ الكذب والاختلاق والدجل ، وينتهي الأمر بإطلاق هجومات تستوعب سائر ما يقرؤه خطيب المنبر الحسيني ، بمختلف مفردات السيرة الحسينيّة ، ولينتهي الأمر بحرمان المستمع الطيّب القلب من استفادة العبرة والأُمثولة ، ومن التفاعل مع أحداث كربلاء بصورةٍ أو بأُخرى .

وهكذا تكون النتيجة : هي أن لا يبقى ثَمّة مِن ثقة في أيّ شيءٍ يقوله قرّاء العزاء ، حتّى ذلك الذي ينقلونه من الكتب التي هي في أعلى درجات الاعتبار والصحّة حتّى عند هؤلاء أنفسهم …

ومَن يدري ، فلربّما يأتي يومٌ يشكّك فيه هواة التشكيك حتّى في أصل استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) ، أو في أصل وجوده .

أعاذنا الله من الزلل ، في الفكر ، والقول ، وفي العمل ، إنّه وليٌّ قدير ، وبالإجابة حريٌّ وجدير .

 

لا يذكر المؤرِّخون ليلى في كربلاء :

لقد ورد في كتاب ( الملحمة الحُسينيّة ) ، ما يلي : هناك نموذج آخر للتحريف في وقائع عاشوراء ، وهو القصّة التي أصبحت معروفة جدّاً في القراءات الحسينيّة والمآتم ، وهي قصّة ليلى أُمّ علي الأكبر . هذه القصّة لا يُوجد في الحقيقة دليل تاريخي واحد يؤكّد وقوعها . نعم ، فأُمّ علي الأكبر موجودة في التاريخ ، واسمها ليلى بالفعل ، ولكن ليس هناك مؤرِّخٌ واحدٌ يشير إلى حضورها لمعركة كربلاء . ومع ذلك فما أكثر المآتم التي تقرأ لنا قصّة احتضان ليلى لابنها علي الأكبر في ساحة الوغى ، والمشهد العاطفي والخيالي المحض (50) .

ويقول المحقّق التستري : ولم يذكر أحدٌ في السِّيَر المعتبَرة حياة أُمّها ( الصحيح : أُمّه ) يوم الطّف ، فضلاً عن شهودها ، وإنّما ذكروا شهود الرباب أُمّ الرضيع وسكينة (51) .

ويقول الشيخ عبّاس القمّي : لم أظفر بشيءٍ يدلّ على مجيء ليلى إلى كربلاء (52) .

ونقول :

إنّنا نسجّل ملاحظاتنا على هذه الفقرات ضمن الأُمور التالية :

أوّلاً : ليلى حضرت في كربلاء :

سيأتي في الفصل الأخير من هذا الكتاب : أنّ حضور أُمّ علي الأكبر في كربلاء مذكور في الكتب المعتبرة ، وأنّ هناك مَن أشار بل صرّح بهذا الحضور .

ثانياً : لابُدّ من شموليّة الاطّلاع :

إنّ من الواضح : أنّ مَن يريد نفي وجود شيءٍ ما ، لابُدّ له أن يقرأ جميع كتب التاريخ ، بل كلّ كتابٍ يمكن أن يشير إلى الأمر الذي هو محطّ النظر .

ولا نظنّ أنّ العلاّمة المطهّري ـ ولا غير المطهّري أيضاً ـ قد قرأ جميع كتب التاريخ ؛ فإنّ ذلك متعسّر ، بل هو متعذّر بلا شكّ على كلّ أحد .

ثالثاً : الأمر لا يختصّ بكتب التاريخ :

كما أنّ ذكر حضور ليلى في كربلاء لا يختص بكتب التاريخ ، فقد تشير إلى ذلك ـ أيضاً ـ كتب الأنساب ، والجغرافيا ، والحديث ، والتراجم ، وكتب الأدب ، وما إلى ذلك …

والكثير من كتب التراث لا يزال يرزح تحت وطأة الغبار ، ويئنّ في زنزانات الإهمال ، ويعاني حتّى من الجهل بأماكن وجوده .

بل إنّنا لا نزال نجهل حتّى ما في طيّات فهارس خزانات الكتب الخاصّة والعامّة ـ فضلاً عن أن نكون قد اطّلعنا على محتويات تلك المكتبات ، من مؤلّفات في مختلف العلوم والمعارف …

فهل يمكن والحالة هذه ، أن يدّعي أحدٌ منّا أنّه قد رصد حركة ليلى في حياتها وتنقّلاتها ؟ .

وهل يصحّ ـ أيضاً ـ من هذا الشهيد السعيد ـ إن كان قد قال ذلك حقّاً ـ أن يحصر هذا الأمر بالمؤرّخين دون سواهم ؟! .

وهل قرأ (رحمه الله) كلّ هذا الكمّ الهائل من هذه الأنواع المختلفة من كتب التراث ، المخطوط منها والمطبوع ، حتّى جاز له أن يصدر هذا الحكم القاطع بنفي حصول هذا الأمر من الأساس ؟! .

رابعاً : التالف من كتب التراث :

ولا يجهل أحد أنّ هناك كمّاً هائلاً ، لا مجال لتصوّره قد تلف وضاع عبر الأحقاب التاريخية المتعاقبة .

وقد تجد ذكراً للكثير من المصادر التي كانت متداولة في أيدي المؤلّفين والمصنّفين الذين سبقونا ، وقد نقلوا لنا عنها أشياء لم تُذكر فيما وصل إلينا ونتداوله نحن الآن من مؤلّفات القدماء ، وقد أشار بعضهم ـ كصاحب البحار وسواه ـ إلى العديد منها ، ونقلوا عنها الكثير ، لكنّها قد تلفت قبل أن تصل إلينا .

فهل نستطيع أن نتّهم هؤلاء العلماء الأعلام ، الأطياب الأخيار ، بممارسة الكذب والاختلاق فيما ينقلونه عن تلك المصادر والمؤلّفات المفقودة ؟! .

وهل يصحّ للشهيد مطهّري وسواه : أن ينفي أمراً ، يحتمل أن يكون ناقله قد أخذه من مصادر لم تصل إلينا ، وما أكثرها ؟! .

ومن الواضح : أنّ المعصوم قد عاش بين الناس حوالي مئتين وثلاث وسبعين سنة ، ثمّ بقي بالقرب منهم ـ بالإضافة إلى ذلك ـ تسعاً وستّين سنة ـ يدبّر أُمورهم ، ويعطيهم توجيهاته من خلال السُّفراء ، ثمّ كانت الغيبة الكبرى .

وقد كان المعصوم (عليه السلام) يقوم بواجبه على أكمل وجه ، ولا يدع فرصةً ـ مهما كانت ضئيلة ـ إلاّ وينشر فيها علمه ومعارفه بالقول والفعل ، وبكلّ وسيلةٍ ممكنةٍ ، بل إنّ كلّ حالة من حالاته ، وكلّ لفتة من لفتاته تُشير إلى حكم إلهي ، وإلى تشريع ربّاني ، وهو حجّةٌ وبلاغ .

فلو أنّ أحداً حاول أن يرصد ويسجّل ذلك كلّه ، ألا ترى معي أنّه سيسجّل مئات الصفحات في كلّ يوم ، وألا يوضّح ذلك لنا حقيقة : أنّ كلّ ما عندنا من أحاديث لا يعدل ما يصدر عنه (عليه السلام) في مدّة شهرٍ واحدٍ أو شهرين ، وحتّى لو كانوا ثلاثة أشهر أو أزيد ، فإنّ ذلك يؤكّد لنا حجم الكارثة التي لا نزال نعاني من أثارها ، وهي أنّ ما ضاع عنّا ـ لأسباب مختلفة ـ لا يمكن أن يُقدّر بقدر ، ولا يُقاس بما نعرف من أحجام …

وأين يقع ما أورده صاحب كتاب البحار ، وهو أضخم موسوعةٍ حديثيّةٍ ، ممّا فقدناه وأضعناه ؟! .

وها نحن لا نزال نجد الكثير الكثير من أحوال وأقوال أئمّتنا ، متناثراً في ثنايا الكتب ، في كلّ ما يُطبع ويُنشر من كتب التراث .

فهل يصحّ لأحدٍ بعد هذا ، أن يبادر إلى نفي قضيّةٍ ما ، لمجرّد أنّه لم يجد في عددٍ يسيرٍ من كتب التاريخ التي راجعها ، ذكراً لما يبحث له عن ذكر أو سند ؟! .

خامساً : الوثاقة لا تعني الصحّة :

وإذا رجعنا إلى أُمّهات الكتب ، وأُصولها ، وهي كتب موثوقة ومعتمدة بلا ريب … فسوف نجد فيها الأحاديث المتعارضة ، التي لا شكّ في صحّة أحـد أطرافها وكذب الطرف الآخر … وكذلك سنجد الأحاديث التي ثبت وقوع الاشتباه والغلط فيها ، من قِبَل الرواة … أو ثبت وقوع التصحيف ، والإسقاط ، والغلط فيها من قِبَل نسّاخها ، الذين تعاقبوا على نقلها عبر العصور والدهور …

فهل ذلك يعني : سقوط الكتاب ومؤلِّفه عن الاعتبار ، بحيث يسوغ لنا اتّهام المؤلِّف بالوضع والاختلاق ، وارتجال الأحداث ؟! .

وهل يصحّ هجر ذلك الكتاب ، وتجاهله ، وعدم الاكتراث به ، بحجّة أنّه كتاب محرّف مشتمل على الدجل والتزوير ؟! .

إنّ ذلك سينتهي بنا ـ ولا شكّ ـ إلى التخلّي عن كلّ ما سوى القرآن من كتب وتآليف ، والتخلّي بالتالي عن كلّ السنّة النبويّة ، والإماميّة التي سجّلتها تلك المؤلَّفات ، بأمانة وإخلاص ، وبحرص بالغ …

وذلك يلغي دور العلماء العاملين ، الذين لابُدّ أن يضطلعوا بدور الحامي والحافظ لهذا الدين ، وأن يعملوا على تنقية كلّ هذا الإرث الجليل من الشوائب ، وإبعاد كلّ ما هو مدسوس ، ومعالجة ما هو مريض ، وتصحيح ما هو محرَّف .

سادساً : الصحّة لا تعني الوثاقة :

وقد تجد في كتاب مَن عُرف بانحرافه وكذبه ، الكثير ممّا هو صحيح بلا ريب ، ممّا نقله لنا الأثبات ، واستفاض نقله في كتب الثقات ... بل قد تجده فيه تصريحات واعترافات ، لم يستطع غيره الاعتراف بها ، بل هو عن ذلك أحجم ، وفي كلامه غمغم وجمجم . لكن قد ضاق صدر هذا المعروف بالكذب وبالانحراف فباح واعترف بها ، كما يعترف المجرم بجرمه ، ويقر المذنب ببوائقه ، ويعلن بما أسرّ من إثمه .

فهل يصحّ لنا أن نقول له : لا قيمة لاعترافك ، بل أنت بريءٌ من جرمك ، منزّه عمّا اعترفت به من إثمك ، ولا يجوز مؤاخذتك بما اقترفت ، ولا أخذك بما به أقررت ؟! .

خلط الحقّ بالباطل هدف المبطلين :

وعدا ذلك كلّه فإنّ خلط الحقّ بالباطل قد يكون هدفاً لدعاة الباطل ، فقد رُوي عن الإمام الباقر (عليه السلام) : أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في خطبةٍ له : ( فلو أنّ الباطل خلص ، لم يخف على ذي حجى ، ولو أنّ الحقّ خلص لم يكن اختلاف . ولكن يُؤخذ من هذا ضغث (53) ومن هذا ضغث ، فيخرجان فيجيئان معاً ، فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى ) (54) .

إنّ الإنصاف يفرض علينا القول : بأنّ فلاناً من الناس إذا كذب في قضيّة هنا ، أو في قولٍ هناك ، فإنّ ذلك لا يسوّغ لنا إطلاق الحكم بالكذب والاختلاق على كلّ أقواله ، وإن كان يفرض علينا درجةً عاليةً من الحيطة والحذر ، في التعامل مع كلّ ما يصدر عنه .

وإنّ عدم وجدان مضمون بعض الروايات ، فيما توفّر لدينا من مصادر ، لا يبرّر لنا الحكم القاطع بنفي وجودها من الأساس ، مع إمكانيّة أن يكون ذلك النصّ مأخوذاً من تأليفات لم تصل إلينا .

فكيف ومن أين ثبت لصاحب كتاب ( الملحمة الحُسينيّة ) :

( أنّ ما يذكره البعض عن ليلى في كربلاء ، مجرّد مشهد عاطفي خيالي محض ) ؟! .

سابعاً : ما ينكرونه كاف في الاحتمال :

وهكذا يتّضح أنّ نفس هذه المنقولات ، التي يريد صاحب كتاب ( الملحمة الحُسينيّة ) تكذيبها صالحة لادّعاء وجود ليلى في كربلاء ، ما دام الحكم عليها بالكذب والاختلاق غير متيسّر لأحد ، مع عدم وجود آيةٍ قرآنيّةٍ تُشير إلى ضدّ ذلك ، ولغير ذلك من أسبابٍ ذكرنا قسماً منها ، وسنذكر الباقي ، فيما سيأتي من صفحات .

مع ملاحظة عدم وجود أيّ مبررٍ لاتّهام مؤلِّفي الكتب التي أوردت ذلك ، بأنّهم كذّابون ووضّاعون … فضلاً عن اتّهامهم بالتصدّي لاختلاق ووضع خصوص هذه القضيّة .

ثامناً : المهتمّون ينكرون :

وقد رأينا كتاب ( الملحمة الحُسينيّة ) يهاجم مَن يتّهمهم برواية ما اعتقد أنّه مكذوب ، مثل الكاشفي ، والدربندي ، والطريحي ، وصاحب الخزائن (رحمهم الله تعالى) بصورةٍ قاسيةٍ وحادّةٍ ، حيث يتّهمهم بالتزوير ، والكذب ، والخرافة ، وغير ذلك (55) .

ولكنّه يمتدح ويطري مَن شاركوه في آرائه هذه ، وهاجموا أولئك كما هاجمهم ، واتّهموهم كما اتّهمهم ، ويعتمد على أقوالهم ، فراجع : ما وصف به الشيخ النوري الذي يوافقه في الرأي هنا ، فإنّه اعتبره رجلاً عظيماً ، متبحّراً في العلوم بشكلٍ فريدٍ ، إلى غير ذلك من أوصاف فضفاضة أفرغها عليه (56) .

رغم أنّ الشيخ النوري (رحمه الله) هو الذي ألّف كتاب ( فصل الخطاب ) الذي يتحدّث فيه عن تحريف كتاب الله ، حيث خدعته أحاديث أهل السنّة الواردة في هذا الخصوص .

فراجع ما ذكرناه في أواخر كتابنا : ( حقائق هامّة حول القرآن الكريم ) .

ورغم أنّ العلماء قد أثنوا ثناءً عاطراً على هؤلاء الذين ذمّهم المطهّري ـ كما قيل ـ فقد أثنوا على الدربندي ، والطريحي وغيرهما ، ووصفوهم بالدين والورع ، والتقوى ، والاستقامة ، وهم قد عاشوا معهم وعاشروهم .

ولكنّه هو يتّهمهم بالكذب والاختلاق ، والتزوير والجهل ، وكأنّ القرآن هو الذي صرّح له بأنّهم قد قاموا هم بأعيانهم بممارسة هذا الاختلاق . والجعل الذي يدّعيه عليهم !! وباختراع ما رأى أنّه هو من الأساطير !! .

واللاّفت للنظر هنا : أنّنا نجد أنّ نفس الدربندي الذي يتعرض للاتّهام ، وللتجريح ، ينكر على بعض القرّاء ذكرهم لبعض الغرائب ، دون أن يسندوها إلى كتاب ، ولا إلى ثقةٍ من الرواة .

واللاّفت أيضاً : أنّه (رحمه الله) قد ذكر ذلك ، وهو يتحدّث عن أُمورٍ ترتبط بعلي الأكبر (عليه السلام) بالذات ، ثمّ هو يفنّدها ، أو يذكر ما يحلّ الإشكال فيها ، فراجع (57) .

تاسعاً : احتضان ليلى ابنها في ساحة الوغى :

والغريب في الأمر هنا : أن الشهيد العلاّمة المطهّري ، فيما ذكره عنه مؤلِّف ( الملحمة الحُسينيّة ) ، يقول : ( إنّ ثَمّة قصّة تتحدّث عن احتضان ليلى لابنها علي الأكبر في ساحة الوغى ، والمشهد الخيالي المحض ) وقد تحدّث عن كثرة المآتم التي حضرها ، وقرأ فيها قرّاء العزاء هذه القصّة بالذات ) .

ونقول :

1 ـ إنّنا على كثرة مجالس العزاء التي حضرناها وسمعناها ، لم نسمع ولا مرّةً واحدةً : أنّ ليلى قد احتضنت ابنها في ساحة الوغى ، ولا نقله لنا أحد ، ولا قرأناه في كتاب .

وذلك يفيد : أنّ ما سمعه (رحمه الله) إنّما كان حالة خاصّة محصورة بأشخاص بأعيانهم ، ولم يصبح جزءاً من تاريخ كربلاء يتداوله الناس أينما كانوا ، وحيثما وجدوا .

2ـ كما أنّنا لم نسمع أيّ شيءٍ عن ليلى ممّا يدخل في دائرة الخيال المحض .

لا بالنسبة لليلى وهي في فسطاطها ، ولا بالنسبة لها حين كانت تلاحظ ولدها من بعيد وهو في ساحة الوغى !! .

فنحن نستغرب هذه الأقوال كما يستغربها ، ونرفضها كما يرفضها .

3ـ البحث العلمي ، والدراسة والاستدلال ، والحديث ، ينبغي أن يتّجه لمعالجة ما أصبح تاريخاً متداولاً ، يتلقّاه الناس بالقبول والرضا ، لا أن يكون عن نزوات أشخاص منحرفين ، أو يعانون من عقدة ، فإنّ معالجة هذا النوع من الأمراض له مجالات ، وسبل أُخرى تربويّة وغيرها .

عاشراً : حتّى لو كتم التاريخ :

ولنفترض جدلاً : أنّ ما قدّمناه وكذلك ما سيأتي من دلائل وشواهد ، لا يكفي للقول بأنّ التاريخ قد صرّح بحضور ليلى في كربلاء يوم العاشر من المحرّم ، رغم أنّ أقلّ القليل منه يكفي للإشارة إلى وجود هذا القول .

غير أننا نقول : إنّ عدم ذكر التاريخ لذلك ـ لو صحّ ـ فإنّه لا يكون سنداً للنفي من الأساس ؛ إذ إنّ التاريخ قد سجّل لنا أسماء عددٍ من الذين حضروا تلك الواقعة : نساءً ورجالاً وأطفالاً … ولكنّه عجز عن ذكر أسماء الكثيرين الآخرين منهم ، بل أهمل ذكر أسماء الأكثرية الساحقة في وقائع مختلفة ، كحنين ، وخيبر ، وصفّين ، والجمل ، والنهروان .

فهل ذلك يعني : أنّ مَن لم يصرّح التاريخ باسمه لم يكن حاضراً في تلك الوقائع ، بحيث يجوز لنا نفي حضوره بشكلٍ باتٍّ ، وقاطعٍ ، ونهائي ؟ .

إنّنا لا نظنّ أنّ أحداً يستطيع أن يلتزم بهذا الأمر ، وهو يعلم : أنّ ذلك يستبطن فتح المجال لإنكار مختلف حقائق التاريخ ، وارتكاب جريمة تزويرٍ كبرى ، لا يجازف عاقلٌ بالإقدام عليها ، في أيٍّ من الظروف والأحوال .


الفصل الخامس

 

التضحية والجهاد ودعاء ليلى لولدها

 


ليلى تنشر شعرها للدعاء :

وقد ذكر صاحب كتاب ( الملحمة الحُسينيّة ) أنّ الشهيد السعيد العلاّمة الشيخ مرتضى مطهّري (رحمه الله) ، قد قال وهو يعدّد التحريفات التي لحقت بواقعة كربلاء :

( قضيّة حضور ليلى في كربلاء ، والإدعاء بأنّ الحسين قد أمرها أن ترجع إلى إحدى الخيم ، وتنشر شعرها ، بعد أن خرجت من المخيّم (58) ) .

ويقول (رحمه الله) : إنّه حضر مجلساً حسينيّاً سمع فيه : ( أنّ عليّاً الأكبر نزل إلى ساحة الوغى ، وإذ بالحسين يتوجّه إلى أُمّه ليلى ، ويطلب منها الدخول إلى إحدى الخيم ، ونثر شعرها ، والتوجه إلى ربها بالدعاء ، ليرجع إبنها سالماً إليها ، فإني سمعت جدي رسول الله (ص) يقول : بأنّ دعاء الأُمّ بحقّ ابنها مستجاب ، فهل هناك تحريف ، أكثر من هذا ؟! .

أوّلاً : ليس هناك ليلى في كربلاء ، حتّى يحدّثها الإمام .

ومن ثمّ ثانياً : هل هذا هو منطق الحسين في المعركة ؟! أبداً ، فمنطق الحسين يوم عاشوراء كان منطق التضحية والجهاد .

ثمّ إنّ كلّ المؤرّخين متّفقون على أنّ الحسين كان يجد الأعذار لكلّ مَن يطلب التوجّه إلى المبارزة ، ما عدا ابنه علي الأكبر ، فإنّه لمّا استأذنه بالقتال ؛ أذن له كما تذكر كلّ الروايات ( فاستأذن في القتال أباه فأذن له ) (59) .

ولكن رغم ذلك : ( ما أكثر الأشعار التي نظموها بحقّ ليلى وابنها في خِيَم كربلاء ) (60) .

ونقول :

إنّ لنا على هذا الكلام عدّة ملاحظات ، نُشير إليها فيما يلي :

أوّلاً : الزهراء ، وكشف الرأس للدعاء :

قد ورد أنّ الزهراء ( عليها السلام ) قد هددت الذين اعتدوا على مقام أمير المؤمنين عليه السلام ، وحملوه إليهم رغماً عنه ليبايع ـ هددت ـ بأن تكشف رأسها وتدعو عليهم (61) .

ومن الواضح أنّ كشف رأسها لن يكون أمام الرجال الأجانب ، بل في بيتها وفي داخل خدرها .

ثانياً : الحسين (عليه السلام) لم يطلب من ليلى شيئاً :

ليس في الرواية : أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد طلب من ليلى : أن تدخل إلى الفسطاط وتنشر شعرها وتدعو .

بل فيها : أنّه (عليه السلام) قد أمرها بالدعاء ، وأخبرها بقول النبي (ص) حول أن دعاء الأُمّ مستجاب في حقّ ولدها ، فجرّدت رأسها ـ وهي في الفسطاط ـ ودعت له (62) .

ويستنكر الشهيد المطهّري ذلك ، حسبما ذكره عنه صاحب ( الملحمة الحُسينيّة ) ، فيقول : ( فهل هناك تحريف أكثر من هذا ؟ ) .

ونحن بعد أن ظهر أنّه لم يلتفت إلى السياق السليم للرواية ، ولم يوردها على سياقها الحقيقي ، نقول له نفس هذا القول :

( فهل هناك تحريف أكثر من هذا ؟!! ) .

اللّهمّ إلاّ أن يبرئ مؤلِّف هذا الكتاب نفسه من هذه المؤاخذة ، على أساس أنّه لا يتحدّث عمّا ورد في الرواية ، وإنّما هو يتحدّث عن تحريف ذلك الخطيب لها .

ثالثاً : استجابة دعاء ليلى والتضحية والجهاد :

وغني عن القول : إنّ استجابة الله سبحانه دعاء أُمّ علي الأكبر ، بعد أن أمرها الإمام الحسين (عليه السلام) بالدعاء لولدها ، وإرجاع ولدها إليها ، لا يتنافى مع التضحية والجهاد ـ كما يريد الشهيد السعيد العلاّمة المطهّري (رحمه الله) أن يقوله ، وفقاً لما نُسب إليه .

وذلك لأنّ استجابته سبحانه وتعالى لها ، بإرجاع ولدها إليها لفترة وجيزة ، ثمّ عودته بعد ذلك لمواصلة كفاحه ، ثمّ استشهاده ، لا يدلّ على أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد رغب في بقاء ولده حيّاً من بعده ، وأنّه قد ضنّ به على الموت في ساحة الجهاد ، فإنّ تأخير استشهاده ساعةً من نهار ؛ إنّما هو من أجل أن يثلج بذلك صدر والدته ، بعودته إليها سالماً من إحدى جولاته ومعاركه ؛ وليكون استشهاده بعد ذلك أهون عليها ، لما تمثّله استجابة دعائها من دلالة يقينيّة على عناية الله سبحانه بهم ، وما يعطيه ذلك لها من ثقةٍ بالله ، وطمأنينة ورضى بقضائه ، وما يهيّؤه للصبر الجميل على تحمّل بلائه جلّ وعلا .

وليكن توجيهها الحسيني نحو الدعاء ، لطلب عودة ولدها ، منسجماً مع مسارعته (عليه السلام) للإذن لولده باقتحام ساحة الجهاد ، دون أدنى تعلّلٍ أو تردّدٍ في ذلك .

رابعاً : الإجماع التاريخي المزعوم :

1ـ لا ندري كيف استطاع العلاّمة الشهيد ، أن يتبيّن وجود إجماع واتّفاق من كلّ المؤرِّخين ، على أنّه (عليه السلام) لم يحاول أن يجد أيّ عذرٍ لولده علي الأكبر ، حينما استأذنه بالبراز . إن صحّ نسبة ذلك إليه .

ـــــــــــــــــ

(50) الملحمة الحُسينيّة ج1 ص18 .

(51) قاموس الرجال ج 7 ص 422

(52) نفس المهموم ص 167 .

(53) الضغث : قبضة من حشيش يختلط فيها الرطب باليابس .

(54) الكافي ج 1 ص 54 .

(55) راجع ما قاله عن الدربندي في : الملحمة الحُسينيّة ج 3 ص 264 و 247 و 48 متناً وهامشاً وج 1 ص 43 و44 و 84 . وما قاله عن الكاشفي ج 1 ص 42 في ج 3 ص 363 والمرجان أيضاً ص 193 . وما ذكره عن صاحب كتاب محرق القلوب ـ أيضاً ـ موجود في نفس الكتاب .

(56) راجع : الملحمة الحُسينيّة ج 1 ص 39 و 12 و 13 و ج 3 ص 245 .

(57) راجع : إكسير العبادات في أسرار الشهادات ج 2 ص 653 و 654 .

(58) الملحمة الحُسينيّة ج 3 ص 239 وراجع ص 246 عن كتاب اللؤلؤ والمرجان للنؤي ص 92 .

(59) عن : اللّهوف ص 47 .

(60) الملحمة الحُسينيّة ج 1 ص 18 و 19.

(61) راجع : البحار ج 30 ص 293/295 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 126 .

(62) إكسير العبادات ج 2 ص 641 .

 

الصفحة اللاحقةالصفحة السابقة