الحقد والتآمر على عاشوراء :
وإذا أردنا أن نقترب قليلاً من أحداث كربلاء الدامية
. فإنّنا نشعر أنّها مستهدفة من
فئات شتّى ، ولأهداف شرّيرة متنوعة ، بإثارتهم أجواء مسمومة حولها ، الأمر الذي يدعونا
إلى المزيد من اليقظة والحذر ، ونحن نواجه هذه الموجة الحاقدة ، التي ترفع في أحيان
كثيرة شعارات خادعة ، وعناوين طنّانة ورنّانة ، وتتّخذ ـ أحياناً ـ لُبوس الإخلاص
والغيرة ، للتّستّر على تآمرها القذر على هذا التراث الإيماني ، الزاخر بالعطاء الإلهيّ
السَّنِيّ والمبارك .
ولكن ... ورغم كيد الخائنين ، ومكر أخدان الأبالسة والشياطين ، فإنّ عاشوراء ستبقى
الشوكة الجارحة التي تنغرس في أحداق عيونهم ، التي أعماها كيدهم اللئيم ، وطمسها
حقدهم الخبيث الذميم
لابُدّ من تحمّل المسؤوليّة :
ونحن في نفس الوقت الذي نرفض فيه كلّ هذا المكر الشيطاني ، والحقد الإبليسي ، وكلّ هذا
التجنّي على هذا الدين وأحكامه ، ورسومه وأعلامه ، فإنّنا نهيب بكلّ المخلصين من أبنائه
،
أن يتحمّلوا مسؤوليّاتهم في الدفاع عنه بصدقٍ وبوعيٍ ، والعمل على قطع الطريق على كلّ
أُولئك الحاقدين والمتآمرين ؛ وذلك عن طريق نشر المعارف الصحيحة ، وكشف زيف الشبهات
التي يثيرونها ، بالأُسلوب العلمي الهادئ والرصين ، وبالكلمة الرضيّة والمسؤولة .
وذلك يحتاج إلى التشمير عن ساعد الجدّ ، والعمل الدائب في مجالات البحث العلمي ،
وتوفير وسائله وأدواته ، وإفساح المجال لأصحاب الأقلام الواعية والنزيهة والمخلصة ،
للمشاركة في إنجاز هذا الواجب ، الذي هو في الحقيقة جهاد في سبيل الله سبحانه ، وما
أشرفه وأجلّه من جهادٍ مباركٍ وميمون .
الحاقدون وهدم المنبر الحسيني :
ولقد تفطّن أعداء عاشوراء في وقتٍ مبكّرٍ جدّاً إلى أنّ أنجع الأساليب وأقواها فتكاً في
محاربة عاشوراء الإمام الحسين (عليه السلام) ، هو : هدم المنبر الحسيني المبارك ؛ لأنّهم
أدركوا أنّ المنبر الحسيني هو الذي يربّي الناس أخلاقيّاً ، وإيمانيّاً ، وسلوكيّاً
،
وعاطفيّاً وعقائديّاً ، وهو الذي يمدّهم بالثقافات المتنوعة ، ويثير فيهم درجاتٍ من الوعي الرسالي ، ويعمّق مبادئ عاشوراء في وجدانهم ، ويعيدهم إلى رحاب الفطرة الصافية ، وينشر
فيهم أحكام الله ، ويربّي وجدانهم وضميرهم الإنساني ، ويصقل مشاعرهم ، وينمّيها ،
ويغذّيها بالمشاعر الجيّاشة ، والصادقة .
فإذا ما تمّ لهم تدمير المنبر الحسيني ؛ فإنّهم يكونون قد حرموا الناس من ذلك كلّه
وسواه ، وكذلك حرموهم من ثواب إقامة هذه الشعيرة الإلهيّة ، وما أعظمه من ثواب ، وأجلّها
من كرامةٍ إلهيّةٍ سَنيّةٍ .
وكان التشكيك بهذا المنبر الشريف ، وبما يُقال فيه من أبسط وسائل التدمير ، وأقلّها مؤونةً أعظمها أثراً ، وأشدّها فتكاً .
ولقد كان الأنكى من ذلك كلّه ، والأدهى ، هو أنّ بعض مَن يُفترض فيهم
أن يكونوا حماة هذا
الدين ، والذابّين عن حريمه ، والمدافعين عن حياضه ، من العلماء ، الذين محضهم الناس
حبهم ، وثقتهم ، وأخلصوا لهم ، لا لأجل خصوصيّةٍ مميّزةٍ في أشخاصهم ، وإنّما حبّاً وإخلاصاً
منهم لدينهم ومعتقداتهم ، التي يرون أنّهم الأُمناء عليها ، والحريصون على حفظها
ونشرها .
إنّ هذا البعض قد أسهم عن غير عمدٍ ـ وبعضهم عن عمدٍ وقصدٍ ـ في صنع هذه الكارثة ، التي
من شأنها أن تأتي على كلّ شيءٍ ، كالنّار في الهشيم . فعملوا على إثارة شكوك الناس
بخطباء هذا المنبر المقدّس ، وفيما يقدّمونه من ثقافةٍ عاشورائيّةٍ ، واتّهموهم بالكذب ،
وبالتحريف ، وبالافتعال المتعمّد للأحداث ، كلّ ذلك ملفّع بأحكام عامّة ، وبمطلقات غائمة ،
وشعارات رنّانة ، يغدقونها بلا حساب ، إسهاماً منهم في زعزعة ثقة الناس بهذه المجالس ،
الأمر الذي لا يمكن أن يصبّ إلاّ في خانة الخيانة للدِّين ، والاعتداء على عاشوراء ، وعلى
الإمام الحسين (عليه السلام) في رسالته ، وفي أهدافه الجهاديّة والإيمانيّة الكبرى .
إنّ الطريقة التي تُوجّه فيها التّهم إلى قرّاء العزاء
، توحي للنّاس بأنّهم ـ وحدهم ـ تجسيد
للأُميّة والجهل ، ولقلّة الدين ، ومثال حيّ لأُناس يعانون من الخواء من الأخلاق النبيلة ،
ومن الدين ، ومن الفضيلة ، ومن كلّ المعاني الإنسانيّة ، وأنّ كلّ همّهم يتّجه إلى تزييف
الحقائق ، وتزيين الخرافات ، والأباطيل ، واجتراح الأساطير للناس ، بلا كللٍ ولا ملل ...
ولنفترض وجود بعض الهنات فيما يقرؤونه ، ويقولونه
، ولسنا نجد من ذلك ما يستحقّ الذكر ،
فإنّ ذلك لا يبرّر لنا اتّهامهم بأنّهم وراء وضع الأساطير والأباطيل ؛ لأنّهم إنّما ينقلون
لنا ما وجدوه ، ويتلون علينا ما قرأوه ، فإن كان ثَمّة من ذنبٍ ، فإنّما يقع على غيرهم
دونهم .
حجم التزوير :
وفي حين أنّنا لا ننكر وجود شاذٍّ نادرٍ حاول أن يزوّر ، أو يحرّف أو يختلق أمراً ، أو أن
ينسج من خياله تصويراً لمشهد بعينه ، لكنّنا نقول : إن هذا النوع من الناس في ندرته ،
وفي قلّته ، وفي حجم محاولاته ، وفي تأثيره ، أشبه بالشعرة البيضاء في الثور الأسود ؛
فلا يمكن أن يبرّر ذلك إطلاق تلك الأحكام العامّة والشاملة الهادفة إلى نسف الثقة بكلّ
شيء .
نقول هذا ، وكلّنا شموخٌ واعتزازٌ ؛ لإدراكنا أنّ عاشوراء حَدَث هائل ، بدأت إرهاصاته منذ
وُلد ، وحتّى قبل أن يولد الإمام الحسين (عليه السلام) ، واستمرّت الارتجاجات التي أحدثها
تتوالى عبر القرون والأحقاب ، ولسوف تبقى إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها .
وقد اشتمل هذا الحدث ـ نفسه ـ بالإضافة إلى إرهاصاته ، وتردّداته ، وآثاره ، على مئات
الحوادث ، والتفصيلات ، والخصوصيّات الصغيرة والكبيرة ، والمؤثِّرة على أكثر من صعيد ،
وفي أكثر من مجال .
ولكن ... وبرغم هذا الاتساع والشمول ، فإنّ أحداً لم يستطع ، ولن يستطيع ـ مهما بلغ به
الجد ـ أن يثبت علميّاً أيّاً من حالات التزوير أو الخرافة ، إلاّ الشاذّ النادر ، الذي
يكاد لا يشعر به أحدٌ بالقياس إلى حجم ما هو صحيح وسليم ، رغم رغبة جهات مختلفة
بالتلاعب بالحقيقة ، وبالتعتيم عليها ؛ وذلك لشدّة حساسيّة هذا الحدث ، وتنوّع مراميه ،
وتشعّب مجالاته ، واختلاف حالاته وتأثيراته .
وحتّى الذين يُنسب إليهم أنّهم أسهموا في إثارة هذه الحملة الشعواء ، نجد أنّهم يسجِّلون
هذه الحقيقة بوضوح ، ويعتزّون بها ، فيستشهد الكتاب المنسوب ( قد أُلِّف هذا الكتاب بعد
وفاته (رحمه الله) ، وجُمع من كتابات ، ومتفرّقات ، ومن أشرطة تسجيل ، كما سيأتي ... ) إلى
الشهيد المطهّري بكلام عن المرحوم الدكتور آيتي ، وهو :
( إنّ تأريخ أبي عبد الله الحسين
(عليه السلام) يُعتبر نسبة إلى كثير من التواريخ الأُخرى تاريخاً محفوظاً من التحريف ،
ومصاناً منه ) (1) .
وذلك إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على أن الله سبحانه قد حفظ هذا الدم الزاكي
؛ ليكون هو
الحافظ لهذا الدين ، وأراد له أن يبقى مصوناً صافياً نقيّاً إلى درجةٍ ملفتةٍ وظاهرة .
ويتجلّى هذا اللطف الإلهيّ ، والعناية الربّانيّة ، حين تفاجئنا الحقيقة المذهلة ، وهي
أنّه حتّى تلك الموارد النادرة جدّاً التي يدّعيها هذا البعض ، لم تدخل في تاريخ كربلاء ؛
لأنّها قد جاءت مفضوحةً إلى درجة أنّها تُضحك الثكلى ، وتدعو إلى الاشمئزاز والقَرَف .
وذلك من قبيل قولهم ـ كما سيأتي ـ : إنّ عدد جيش يزيد في عاشوراء كان مليوناً وستّمئة
ألف مقاتل . وأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد قتل منهم بيده ثلاثمئة ألف . وأنّ طول
رمح سنان بن أنس ، الذي يُقال : إنّه احتزّ رأس الحسين (عليه السلام) كان ستّين ذراعاً
، وأنّ
الله قد بعثه إليه من الجنّة ...
وظهر بذلك مصداق قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الحسين
(عليه السلام) : ( إنّه
مصباح هدى ، وسفينة نجاة ) (2) .
فصدق الله ، وصدق رسوله ، وصدق أولياؤه الأبرار الطاهرون ، والأئمّة المعصومون .
تمنّيات :
ويا ليت هذا الجهد الذي يصرفه ذلك البعض ، في سياق تشكيك الناس بالمنبر الحسيني
، قد
صرفه و يصرفه باتّجاه توطيد ثقة الناس بهذا المنبر ، ومضاعفة إقبالهم عليه ، ويا ليته
يهتمّ أو يسهم ولو لمرّةٍ واحدةٍ بعملٍ تحقيقيٍّ علميٍّ ، يستند إلى الأرقام والدلائل
والبراهين ، ويكفّ عن ممارسة النقد العشوائي ، والتجريح ، والقمع .
ويا ليته ـ أيضاً ـ ولو لمرّةٍ واحدةٍ مارس عمليّاً تطوير أساليب المنبر الحسيني ، وعمل على
رفع مستوى العطاء فيه ، وأسهم في تحاشيهم الوقوع في بعض السلبيّات أو الأخطاء ، التي
لم يزل يشنّع بها على جميع أهل هذا المنبر ، والتي ربّما تصدر عن قلّةٍ من خطبائه ، ممّن
لم تتوفّر فيهم شروطه ، ولا بلغوا مستويات العطاء فيه . وإنّما يلجأ الناس إليهم بسبب
كثرة الحاجة ، وعدم توفّر العدد الكافي لملء الفراغ في مئات المجالس ، خصوصاً في أيّام
العشرة الأُولى من شهر محرّم .
لا يُؤخذ البريء بالمُسيء :
وإنّ من أبده البديهيّات أنّ المجرم هو الذي يُعاقب
، ولا يُؤخذ غيره بجرمه .
فلو افترضنا أنّ أحداً من الخطباء قد أساء إلى هذا المنبر ، وارتكب من الأخطاء ما
يفرض موقفاً بعينه ، فإنّ المسؤوليّة الشرعيّة والإنسانيّة تقضي بحصر الأمر بخصوص ذلك
الذي ارتكب هذا الأمر ، ولا يجوز ـ بأيّ حالٍ من الأحوال ـ إطلاق الكلام بنحوٍ يُثير أيّة
علامة استفهام على مَن عداه ...
فإن كان ثمّة مَن كَذَبَ وزوّر فليُذكَر لنا اسمه ، وان كان ثَمّة مَن اجترح الأساطير
والخرافات فليُحدَّد للناس شخصه .
التهويل والاستـنساب :
وفي سياقٍ آخر ، فقد نجد لدى أُولئك الذين لا يمتلكون قدرةً وجلداً على البحث ، والتحليل ،
والتّتبع ، والتمحيص ، توجّهاً نحو أُسلوب الاستـنساب والمزاجيّة في اختيار النصوص ، ثمّ في
عرض الأحداث وترصيفها ، وربط بعضها ببعض ، فضلاً عن تحديد مناشئها ، والتكهّن بآثارها ...
يُصاحب ذلك سعيٌ للتحصّن خلف الادعاءات العريضة والشعارات ، والتعميمات غير المسؤولة ،
من خلال تنميق العبارات ، واختيار المصطلحات الباهرة والرنّانة ...
وقد يستعملون إلى جانب ذلك أُسلوب التهويل ، والتعظيم ، والتضخيم ، والتفخيم لأُمور
جزئيّة وصغيرة ، وربّما تكون خارجةً عن الموضوع الأساس .
ثمّ تكون النتيجة هي استبعاد كثير من النصوص الصريحة والصحيحة ، والتشكيك بأحداث أو
بخصوصيّات لم يكن من الإنصاف التشكيك فيها ، ثمّ استـنساب نصٍّ بعينه هنا ، وعدم استـنساب
نصٍّ آخر هناك ، الأمر الذي ينتهي بجريمة ، ولا أعظم منها في حقّ دين الله ، وفي حقّ
أصفيائه ، وأوليائه ، وبالتالي في حقّ عباده ، أيّاً كانوا ، وحيثما وجُدوا ...
وبالنسبة لقضيّة كربلاء بالذات ، فإنّ الجريمة ستكون
أكثر فظاعةً ، وهولاً ، حتّى من جريمة
يزيد لأنّ يزيد (لعنه الله) إنّما قتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، وهؤلاء إنّما يحاولون
قتل إمامة الحسين (عليه السلام) ، والقضاء على كلّ نبضات الحياة في حركته الجهاديّة ،
ليكونوا بذلك قد احرقوا سفينة النجاة ، وأطفأوا مصباح الهدى ، أو هكذا زُيّن لهم .
علينا أن نخطِّط للبكاء في عاشوراء :
أمّا بالنسبة للبكاء على الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) ، فما هو إلا للتّعبير عن
توفّر حالةٍ من الإثارة العاطفيّة ، التي تعني استجابة المشاعر والأحاسيس ليقظةٍ
وجدانيّةٍ ، وحياةٍ ضميريّةٍ ، أثارتها مأساة لا يجد أحد في فطرته ، ولا في عقله ، ولا في
وجدانه أيّ مبرّرٍ لها .
إذن فحياة الوجدان ، ويقظة الضمير ، تجعل المنبر الحسيني قادراً على الإسهام الحقيقي
في صنع المشاعر ، وفي صقلها ، وبلورتها ، باعتبارها الرافد الأساس للإيمان ، والحافظ له
من أن يتأثّر بالهزّات ، أو أن ينهار أمام الكوارث والأزمات .
هذا الإيمان الذي يُفترض فيه أن يكون مرتكزاً
إلى الرؤية اليقينيّة ، وإلى الوضوح
والواقعيّة ؛ لأنّ الفكر الذي لا يحتضنه القلب ، ولا ترفده المشاعر ، لن يتحوّل إلى إيمانٍ
راسخٍ ، ولن يكون قادراً على أن يفتح أمام هذا الإنسان آفاق التضحية والفداء ،
والإيثار ، والجهاد ، وسائر المعاني والقيم الكبرى ، التي يريد الله للإنسان أن يقتحم
آفاقها بقوّةٍ وعزيمةٍ ، وبوعيٍ وثبات .
وذلك يحتّم علينا ـ إذا كنّا نشعر بالمسؤوليّة
ـ أن نخطِّط لهذا البكاء الذي يحيي الضمير ،
ويطلق الوجدان من أسر الهوى ، ومن عقال الغفلات ، ويبعده عن دائرة الهروب ،
واللاّمبالاة . كما خطّط الأئمّة (عليهم السلام) لذلك ، حين أقاموا مجالس العزاء هذه ، بل
لقد رُوي أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) قد شارك دِعبلاً ببيتين من الشعر ، يكون بهما
تمام قصيدته ، بما لها من المضمون الحزين المثير للبكاء .
ولتكن قصّة ذبح إبراهيم لإسماعيل ، وقصّة حجر بن عدي الذي عمل على أن يقتل ولده قبله ،
وكذلك الإمام الحسين ، وأصحابه ، وأهل بيته في كثير من مفردات كربلاء . ثمّ ما جرى على
سيدة النساء ، وعلى أمير المؤمنين ، وعلى الإمام الحسن (عليهم السلام) وسائر مواقف
الجهاد والتحدّي ـ نعم ليكن ذلك كلّه وسواه ، هو تلك الوسائل والمفردات التي أراد الله
لها أن تخدم ذلك الهدف السامي والنبيل .
الارتفاع إلى مستوى الخطاب الحسيني :
وبعد ... فإنّ علينا أن نرتفع بالناس إلى مستوى الخطاب الحسيني ، من خلال تبنّي مناهج
تربويّة وتثقيفيّة في مجالات العقيدة والإيمان ، تهتمّ بتعريف الناس على المعايير
والضوابط المعرفيّة والإيمانيّة ، وتقدّم لهم ثقافةً ، تجعلهم يطلّون من خلالها على مختلف
حقائق هذا الدين ، وعلى آفاقه الرحبة ، وليميّزوا من خلال هذه الثقافة بالذات بين
الأصيل والدخيل ، وبين الخالص والزائف ، في كلّ ما يُعرض عليهم ، أو يواجههم ، في مختلف
شؤون الدين والتاريخ والحياة .
وليخرجوا بذلك عن أسر هذا الذي أُدخل في وعيهم عن طريق التلقين الذكي : إنّ الإسلام
مجرّد سياسة ، واقتصاد ، وعبادة ، وأخلاق ، وعلاقات اجتماعية ... فهو أشبه بالقانون منه
بالدين الإلهي ؛ لأنّ هذا الفهم يهيئ لعمليّة فصلٍ خطيرةٍ للشريعة عن واقع المعارف
الشاملة والمتنوّعة ، التي ترفد ذلك كلّه وسواه ، وتشكّل ـ بمجموعها ـ قاعدةً إيمانيّة
صلبة ، تفتح أمام هذا الإنسان آفاقاً يشتاق إلى اقتحامها ، وتعطيه مزيداً من الإحساس
بالغيب ، والمزيد من الأهليّة والقدرة على التعامل معه ، وإدخاله إلى الحياة ، ما دام
أنّ الإنسان لن يسعد ، ولن يذوق طعم الحياة الحقيقية بدونه ...
وإنّ أبسط ما يفرضه علينا هذا الأمر ، هو أن لا نقدّم الأئمّة (عليهم
السلام) للناس على أنّهم مجرّد
شخصيّات تتميّز بالذكاء الخارق ، والعبقريّة النادرة ، قد عاشت في التاريخ ، وكانت لها
سياساتها ، وعباداتها ، وأخلاقها ، وعلاقاتها الاجتماعيّة ... ثمّ ما وراء عبادان قرية
...
بل علينا أن نعرّفهم لهم بأنّهم فوق ذلك كلّه ، إنّهم أُناس
إلهيّون بكلّ ما لهذه الكلمة من
معنى ، وأنّ نلخّص لهم ـ وفق تلك البرامج التثقيفيّة والتربويّة التي أشرنا إليها ـ كلّ
المعارف التي وردت في كتاب الكافي الشريف ، وفي كتاب البحار على سبيل المثال ، ولو
على سبيل الفهرسة الإجماليّة للمضامين ، لتمرّ على مسامعهم أكثر من مرّة ـ إن أمكن
؛ لأنّ
المعصومين (عليهم السلام) ما قالوا شيئاً ليبقى مغيّباً في بطون الكتب والموسوعات ، بل
أرادوا له أن يصل إلينا ، وأن يدخل في حياتنا ، ويصبح جزءاً من وجودنا كلّه .
فلابُدّ إذن من إعداد ذهنيّة الإنسان المسلم ، وروحه وعقله لتقبّل هذه المعارف ، وللتعامل
معها ، من خلال معاييرها ومنطلقاتها الإيمانيّة والعلميّة الصحيحة .
كما أنّ ذلك يُعطي الفرصة للإنسان المؤمن
، ليستمع أو يطّلع على الكثير ممّا قاله قرآنه ،
وأنبياؤه ، وأئمته المعصومون ، عن السماء والعالَم ، وعن الخلق والتكوين ، وعن الآخرة
والدنيا ، وعن كلّ شيء ، نعم كلّ شيء .
ولسوف يجد في ذلك كلّه ما يحفّزه للسؤال عن المزيد ، ويفتح أمام عينيه آفاقاً رحبةً ،
يجد نفسه ملزماً باستكناه كثيرٍ من جوانبها ، واكتشاف ما أمكنه اكتشافه من حقائقها .
أُسلوب الانتقاء إدانة مبطّنة :
وغنيٌّ عن القول : أن انتهاج أُسلوب الانتقاء والاستنساب العشوائي ، الذي قد يكون خاضعاً
لظرف سياسي ، أو نفسي ، أو لقصور في الوعي الديني ، أو لغير ذلك من أُمور ؛ إنّ انتهاج
هذا الأُسلوب ، من شأنه أن يعطي الانطباع السيئ عن كثير من مفردات الثقافة الإيمانيّة
الصحيحة ، من خلال ما يستبطنه من إدانة ، أو اتّهام لكلّ نصٍّ لم يقع في دائرة الاستنساب
هذه ، الأمر الذي ينتهي بحرمان الآخرين من فرصة التفكير المنطقي في شأن التراث ،
بالاستناد إلى المبرّرات العلميّة ، والتزام الضوابط والمعايير المقبولة والمعقولة ،
بعيداً عن أيّ إيحاء يهيّئ لحالة نفرة غير منطقيّة من كثيرٍ من النصوص التي تواجهنا
ونواجهها في سيرتنا الثقافيّة والإيمانيّة .
وكذلك بعيداً عن كلّ أساليب التهويل والتضخيم ، حتّى ولو بالصوت الرنّان ، والنبرات
الحادّة ، وعن تهويلات وإيحاءات اليد في إشاراتها وحركاتها ، والوجه في تقبّضاته
وتجهماته ... فضلاً عن اللسان ولذعاته ، وما إلى ذلك من أُمور ؛ فإنّ ذلك لن يفيد شيئاً
في تأكيد حقّانيّة أمر ، وفرض الالتزام به ، ولا في استبعاد ما عداه ، والتنكّر له .
بل
تبقى الكلمة الفصل للفكر الأصيل ، وللبحث الموضوعي ، وللدلائل والشواهد القويّة
والحاسمة .
الفصل الثاني
الخرافات والأساطير في عاشوراء
الأساطير والحقائق في عاشوراء
قد نُسب إلى الشهيد السعيد العلاّمة الشيخ مرتضى مطهّري
، من خلال خطابات مسجّلة في
أشرطة ، وأوراق وُجدت بعد وفاته : أنّه ساق طائفةً من الموارد التي اعتبرها مصنوعة
وموضوعة ، أُضيفت إلى تاريخ عاشوراء بعد أن لم تكن ، وحين تتبّعناها ، وجدنا أنّ القسم
الأعظم منها لا يمكن قبول هذا الحكم القاسي عليه ...
ونستطيع أن نقسّم هذه الموارد إلى أقسام ثلاثة ، هي :
1ـ ما هو مكذوب بالفعل ، ممّا يرتبط بالسيرة الحُسينيّة ، ويتحدّث عن أحداث كربلاء ، أو عن
ما يتّصل بها من المبدأ إلى المنتهى ...
2ـ ما لا يصح الحكم عليه بأنّه مكذوب من تلك الأحداث العاشورائيّة ، أو ما يتّصل بها ،
ممّا سبقها ولحقها ...
3ـ ما لا يرتبط بأحداث عاشوراء ، ولا يتعرّض لما سبقها ولحقها في شيء ، وإنّما هو أُمور
يُدّعى أنّها حصلت بعد عشرات السنين ، قد يكون منها السليم والسقيم ، سواء أكان يدخل
في نطاق الكرامات ، أو المنامات ، أو الاحداث أو غيرها ، مثل قصّة قاطع الطريق ومنامه
حول غبار زوّار الإمام الحسين (عليه السلام) ، وما أشبهها من قصص وحكايات .
ولا يعنينا هنا هذا القسم الأخير في شيء ، ولا يهمّنا تمييز الصحيح منه من غير
الصحيح ، والحقيقة من الأُسطورة فيه .
أمّا القسمان الأوّلان ، فنحن نختصر الحديث عن كلّ واحدٍ منهما بطريقةٍ واضحةٍ وصريحةٍ ، تضع
النقاط على الحروف ، فنقول :
القسم الأوّل : المكذوب والمختلق :
إنّ عدداً من تلك الموارد التي أشار إليها الشهيد المطهّري
(رحمه الله) ـ على ما في
الملحمة الحُسينيّة ـ هي أشبه بالقصص التي تـنتجها أوهام الكذّابين ، حينما يتبارون فيما
بينهم في مجال اجتراح حكايا التضخيم والتهويل لغرض التسلية ، والتباهي الفارغ ...
وهي قصص قاصرة عن أن تصبح تاريخاً يألفه العقلاء ، أو يُدخِلها الكتّاب والمؤلِّفون
،
ولو في دائرة الاحتمالات البعيدة لتشكّلات عناصر الحدث التاريخي ...
وقد نُسب إلى الشهيد السعيد : أنّه ذكر طائفةً من هذا القسم ، وأنّه قد
أقام الدنيا ، ولم
يكد يقعدها في هجمات صاعقة ماحقة ، تثير رياحاً عاصفة هوجاء ، وأجواءً محمومةً ومخيفةً
...
مع أنّ الأمر أبسط من ذلك ، فإنّ أكثر هذه
الأكاذيب لا يمكن أن يدخل في وجدان ، أو في
عقل أيّ إنسان ، مهما كان أُمّيّاً وجاهلاً ، وحتّى ساذجاً أيضاً ...
وبعضها الآخر : يكتشِف زيفه أيٌّ كان من الناس بأدنى مراجعة للكتب الحديثيّة
والتاريخيّة ...
وهذه الموارد هي التالية :
1ـ إنّ طول رمح سنان بن أنس (لعنه الله) ، والذي يُقال
إنّه هو الذي احتزّ رأس الإمام
الحسين (عليه السلام) ، ستّون ذراعاً ، وإنّ هذا الرمح قد بعثه الله إليه من الجنّة
... (3) .
2ـ إنّ عدد الذين حاربوا الإمام الحسين (عليه السلام) كان ستمئة
ألف من الخيّالة ،
ومليوناً من المشاة ... (4) .
أو أنّ عددهم ثمانمئة ألف
(5) .
وان الإمام الحسين (عليه السلام) قد قتل منهم ثلاثمئة
ألف ، وقتل العبّاس منهم خمسة
وعشرين ألفاً (6) .
وفي حديثٍ آخر لهم : أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قد قام بعدّة حملات ، يقتل في كلّ
حملةٍ منها عشرة آلاف (7) .
مع أنّ النصّ التاريخي المعتمد يقول : إنّ عدد جيش يزيد
(لعنه الله) كان ثلاثين ألفاً (8)
أو ثمانين ، أو مئة ألف في أكثر الروايات (9) .
كما أنّ المسعودي في إثبات الوصيّة يقول :
إنّ مَن قتلهم الإمام الحسين عليه السلام بيده
هم 1800رجلاً ، وذكر محمد بن أبي طالب أنّ عددهم هو 1950رجلاً
(10) .
3ـ إنّ هاشم المرقال قد حضر واقعة كربلاء
(11) .
ومن الواضح : أنّ هاشماً (رحمه الله) قد استشهد في حرب صفّين
، التي سبقت واقعة كربلاء بنيّفٍ وعشرين سنة .
وإن كنّا نحتمل أن يكون ثَمّة سقط من الرواية ، بحيث يكون الحاضر في كربلاء هو أحد
أبنائه ، فسقط المضاف ، وبقي المضاف إليه .
والإسقاط في الروايات يحصل بكثرة ، ولكنّ
قولهم إنّ لحربته ثمانية عشر شقّاً ، يبقى بلا معنى مفهوم .
4ـ عرس القاسم (12) فإنّه
ـ أيضاً ـ من الأُمور التي قد لا نجد لها مبرّراً مقبولاً أو
معقولاً .
5ـ إنّ طول يوم عاشوراء ( 70 ) ساعة
(13) ، حيث يمكن عدّ هذا الأمر من هذا القسم أيضاً .
6ـ وقد تكون قصّة ترتيب الإمام السجّاد (عليه السلام) لأحذية الحاضرين في مأتم الإمام
الحسين (عليه السلام) من هذا القبيل كذلك (14) .
ــــــــــــ
(1) الملحمة الحُسينيّة ج3 ص236 عن كتاب : تحليل تاريخ عاشوراء ص 151 .
(2) فرائد السمطين ج2 ص155 وإحقاق الحق ، قسم الملحقات ج14 ص62 ، وكمال الدين وتمام
النعمة ج1 ص265 وعيون أخبار الرضا ج1 ص60 ، والبحار ج36 ص 205 .
(3) الملحمة الحُسينيّة ج1 ص21 .
(4) راجع الملحمة الحُسينيّة ج1 ص34 وج3 ص239 و248 .
(5) المصدر السابق ج3 ص239 .
(6) المصدر السابق ج1 ص21 و22 وج3 ص254 عن اللؤلؤ والمرجان ص195 .
(7) المصدر السابق ج3 ص246 عن اللؤلؤ والمرجان ص92 .
(8) راجع : مقتل الحسين للمقرّم ص240 عن آمالي الصدوق .
(9) راجع : مقتل الحسين للمقرّم ص239 و240 متـناً وهامشاً .
(10) الملحمة الحُسينيّة ج3 ص254 عن اللؤلؤ والمرجان ص195 .
(11) الملحمة الحُسينيّة ج3 ص236 و247 و239 . وراجع ج1 ص21 وعن اللؤلؤ والمرجان
ص163 .
(12) راجع : المصدر السابق ج1 ص20 و42 ج3 ص239 و254 عن اللؤلؤ والمرجان ص193 .
(13) الملحمة الحُسينيّة ج3 ص248 وراجع : ص239 عن اللؤلؤ والمرجان ص168 .
(14) الملحمة الحُسينيّة ج3 ص252. |