|
الفصل الثالث
(وصية الإمام العسكري عليه السلام إلى والدته)
وأمّا تعلقهم بوصيّة أبي محمد الحسن بن عليّ بن محمد
عليهم السلام في مرضه الذي توفّي فيه إلى والدته
المسمّاة بحديث، المكنّاة بأم الحسن رضي الله عنها،
بوقوفه وصدقاته، وإسناد النظر في ذلك إليها دون غيرها،
فليس بشيء يُعتمد في إنكار ولدٍ له قائم من بعده
مقامه، من قِبل أنّه أمرٌ بذلك تمام ما كان من غرضه في
إخفاء ولادته، وستر حاله عن متملّك الأمر في زمانه،
ومَن يسلك سبيله في إباحة دم داعٍ إلى الله تعالى
منتظر لدولة الحقّ.
ولو ذكر في وصيّته ولداً له وأسندها إليه، لناقض ذلك
الغرض منه فيما ذكرناه، ونافى مقصده في تدبير أمره له
على ما وصفناه، وعدل عن النظر بولده وأهله ونسبه،
لا سيّما مع اضطراره كان إلى شهادة خواصّ الدولة
العباسيّة عليه في الوصيّة، وثبوت خطوطهم فيها _
كالمعروف بتدبر مولى الواثق،
وعسكر الخادم مولى محمّد بن المأمون، والفتح بن عبد
ربّه، وغيرهم من شهود قضاة سلطان الوقت وحكّامه _ لِما
قصد بذلك من حراسة
قومه، وحفظ صدقاته، وثبوت وصيّته عند قاضي الزمان،
وإرادته مع ذلك الستر على ولده، وإهمال ذكره، والحراسة
لمهجته بترك التنبيه
على وجوده، والكفّ لأعدائه بذلك عن الجدّ والاجتهاد في
طلبه، والتبريد
عن شيعتهِ لِما يُشنّع به عليهم من اعتقاد وجوده
وإمامته.
ومَن اشتبه
عليه الأمر فيما ذكرناه، حتّى ظنّ أنّه دليلٌ على
بطلان مقال الإماميّة في وجود ولدٍ للحسن عليه السلام
مستور عن جمهور الأنام، كان بعيداً من الفهم والفطنة،
بائنا(
عن الذكاء والمعرفة، عاجزاً بالجهل عن التصوّر أحوال
العقلاء وتدبيرهم
في المصالح، وما يعتمدونه
في ذلك من صواب الرأي وبشاهد الحال، ودليله من العرف
والعادات.
* * *
فصل: (وصية الإمام الصادق
عليه السلام إلى حميدة المصفاة)
وقد تظاهر الخبر فيما كان عن تدبير أبي عبد الله جعفر
بن محمّد عليه السلام ، وحراسته
ابنه موسى بن جعفر عليه السلام بعد وفاته من ضرر
يلحقه:
بوصيّته
إليه، وأشاع
الخبر عن الشيعة إذ ذاك باعتقاد إمامته من بعده،
والاعتماد في حجّتهم لذلك على إفراده بوصيّته مع نصّه
عليه بنقل خواصّه.
فعدل عن إقراره
بالوصيّة عند وفاته، وجعلها إلى خمسة نفر: أوّلهم
المنصور
_ وقدّمه على جماعتهم إذ هو سلطان الوقت ومدبّر أهله _
ثمّ صاحبه الربيع من بعده، ثمّ قاضي وقته، ثمّ جاريته
وأمّ ولده حميدة البربرية،
وختمهم بذكر ابنه موسى بن جعفر عليه السلام ،
يستر أمره ويحرس بذلك نفسه.
ولم يذكر مع ولده موسى أحداًَ من أولاده، لعلمه بأنّ
منهم من يدّعي مقامه من بعده، ويتعلّق بإدخاله في
وصيّته.
ولو لم يكن
موسى عليه السلام
ظاهراً مشهوراً في أولاده، معروف المكان منه، وصحّة
نسبه واشتهار، فضله وعلمه، وحكمته وامتثاله وكماله، بل
كان مثل ستر الحسن عليه السلام ولده، لَما ذكره في
وصيّته، ولاقتصر على ذكر غيره ممّن سميناه،
لكنّه ختمهم في الذِكر به كما بيّناه.
وهذا شاهد لِما وصفناه من غرض أبي محمّد عليه السلام
في وصيّته إلى والدته دون غيرها، وإهمال ذكر ولدٍ له،
ونظر له في معناه على ما بيّناه.
* * *
الفصل الرابع
(سبب الغيبة والاستتار)
فأمّا الكلام في الفصل الرابع، وهو: الاستبعاد الداع
(كذا) للحسن عليه السلام إلى ستر ولده، وتدبير الأمر
في إخفاء شخصه، والنهي لشيعته عن البينونة بتسميته
وذكره، مع كثرة الشيعة في زمانه، وانتشارهم في البلاد،
وثروتهم
بالأموال وحسن الأحوال،
وصعوبة الزمان فيما سلف على آبائه عليهم السلام ،
واعتقاد ملوكه فيهم، وشدّة غلظهم على الدائنين
بإمامتهم، واستحلالهم الدماء والأموال، ولم يدعهم ذلك
إلى ستر ولدهم، ولا مؤهّل الأمر من بعدهم.
وقول الخصوم: إنّ هذا متناقض في أحوال العقلاء.
فليس الأمر كما ظنّوه، ولا كان على ما استبعدوه.
والذي دعا الحسن إلى ستر ولده، وكتمان ولادته، وإخفاء
شخصه، والاجتهاد في إهمال ذكره بما خرج إلى شيعته من
النهي عن الإشارة إليه، وحظر تسميته، ونشر
الخبر بالنصّ عليه شيء ظاهرٌ، لم يكن في أوقات آبائه
عليهم السلام ، فيدعونه
من ستر أولادهم إلى ما دعاه إليه، وهو:
أنّ ملوك الزمان إذ ذاك كانوا يعرفون من رأي الأئمّة
عليهم السلام التقيّة، وتحريم الخروج بالسيف على
الولاة، وعيب مَن فعل ذلك من بني عمّهم ولومهم عليه،
وأنّه لا يجوز عندهم تجريد السيف حتّى: تركد الشمس عند
زوالها، ويُسمع نداء من السماء باسم رجل بعينه، ويُخسف
بالبيداء، ويقوم آخر أئمّة الحقّ بالسيف ليزيل
دولة الباطل.
وكانوا(
لا يُكبرون بوجود مَن يوجد منهم، ولا بظهور شخصه، ولا
بدعوة
من يدعو إلى إمام، لأمانهم مع ذلك من فتقٍ
يكون عليهم به، ولاعتقادهم
قلّة عدد مَن يُصغي إليهم في دعوى الإمامة لهم، أو
يصدّقهم فيما يخبرون به من منتظر يكون لهم.
فلمّا جاز وقت وجود المترقّب لذلك، المخوف منه القيام
بالسيف، ووجدنا الشيعة الإماميّة مطبقة على تحقيق
أمره، وتعيينه
والإشارة إليه دون غيره، بعثهم ذلك على طلبه وسفك دمه،
ولتزول
الشبهة في التعلّق به، ويحصل الأمان في الفتنة
بالإشارة إليه والدعوة إلى نصرته.
ولو لم يكن ما ذكرناه شيئاً ظاهراً وعلّة
صحيحةً وجهةً ثابتةً، لكان غير منكرٍ أن يكون في معلوم
الله جلّ اسمه أنّ مَن سلف من آبائه عليهم السلام يأمن
مع ظهوره، وأنّه هو لو ظهر لم يأمن على دمه، وأنّه متى
قُتل أحدٌ من آبائه عليهم السلام عند ظهوره لم تمنع
الحكمة من إقامة خليفة يقوم مقامه، وأنّ ابن الحسن
عليهما السلام لو يظهر
لسفك القوم دمه، ولم تقتض الحكمة التخلية بينهم وبينه،
ولو كان في المعلوم للحقّ صلاحٌ بإقامة إمامٍ من بعده
لكفى في الحجّة، وأقنع في إيضاح المحجّة،
فكيف وقد بيّنا عن سبب ذلك بما لا يحيل
على ناظر، والمنّة لله.
* * *
الفصل الخامس
(طول الغيبة وعدم رؤيته عليه السلام)
وأمّا الكلام في الفصل الخامس، وهو قول الخصوم: إنّ
دعوى الإماميّة لصاحبهم أنّه منذ ولد إلى وقتنا هذا مع
طول المدّة وتجاوزها الحدّ، مستترٌ لا يعرف أحدٌ
مكانَه، ولا يعلم مستقرّه، ولا يدّعي عدلٌ من الناس
لقاءه، ولا يأتي بخبرٍ عنه، ولا يعرف له أثراً.
خارجة عن العرف، إذ لم تجر العادة لأحدٍ من الناس
بذلك، إذ كان كلّ من اتّفق له الاستتار عن الظالم لخوف
منه على نفسه ولغير ذلك من الأغراض، تكون مدّة استتاره
مرتّبة، ولا تبلغ عشرين سنة فضلاً عمّا زاد عليها، ولا
يخفى أيضاً على الكلّ في مدّة استتاره مكانه،
بل لا بدّ من أن يعرف ذلك بعض أهله وأوليائه بلقائه،
وبخبرٍ منه يأتي إليهم
عنه.
وإذا خرج قول الإمامية في استتار صاحبهم وغيبته عن حكم
العادات بطل ولم يُرجَ قيام حجّة.
فصل: (فيمن رأى الإمام
عليه السلام وشاهده)
وليس الأمر كما توهّمه الخصوم في هذا الباب، والإمامية
بأجمعها تدفعهم عن دعواهم وتقول:
إنّ جماعة من أصحاب أبي محمّد الحسن بن عليّ بن محمّد
عليهم السلام قد شاهدوا خَلَفه في حياته، وكانوا
أصحابه وخاصّته بعد وفاته، والوسائط بينه وبين شيعته
دهراً طويلاً في استتاره، ينقلون
إليهم عن
معالم الدين، ويخرجون إليهم أجوبة عن مسائلهم فيه،
ويقبضون منهم حقوقه لديهم.
وهم جماعة كان الحسن بن عليّ عليه السلام عدّلهم في
حياته، واختصّهم أُمناء له
في وقته، وجعـل إليهم النظر في أملاكه،
والقيام بمآربه، معروفون
بأسمائهم وأنسابهم وأمثالهم كأبي عمـرو عثمان
بن سعـيد السمّان،
وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان،
وبني الرحبا من نصيبين،
وبني سعيد، وبني مهزيار بالأهواز،
وبني الركولي
بالكوفة،
وبني نوبخت ببغداد،
وجماعة من أهل
قزوين وقم
وغيرها من الجبال،
مشهورون بذلك عند الإماميّة والزيديّة، معروفون
بالإشارة إليه به عند كثيرٍ من العامّة.
وكانوا أهل عقلٍ وأمانةٍ، وثقةٍ ودرايةٍ، وفهمٍ
وتحصيلٍ ونباهةٍ، وكان السلطان يعظم أقدارهم بجلالة
محلّهم في الدنيا، ويكرمهم لظاهر أمانتهم واشتهار
عدالتهم، حتّى أنّه كان يدفع عنهم ما يضيفه إليهم
خصومهم من أمرهم، ضنّا(
بهم واعتقاداً لبطلان قذفهم
به، وذلك لما كان من شدّة تحرّزهم، وستر حالهم،
واعتقادهم، وجودة آرائهم، وصواب تدبيرهم.
وهذا يسقط دعوى الخصوم وِفاق الإمامية لهم: أنّ صاحبهم
لم يُرَ منذ ادّعوا ولادته، ولا عُرف له مكان، ولا
خبّر أحدٌ بلقائه.
|