|
الفصل السابع
(هل وجود الإمام مغيّباً كعدمه؟)
فأمّا قول الخصوم: إنّه إذا استمرّت غيبة الإمام على
الوجه الّذي تعتقده الإماميّة _ فلم يظهر له شخص، ولا
تولى
إقامة حدّ، ولا إنفاذ حكم، ولا دعوة إلى حقّ، ولا جهاد
العدوّ _ بطلت الحاجة إليه في حفظ
الشرع والملّة، وكان وجوده في العالم
كعدمه.
فصل: (الغيبة لا تنافي حفظ الشرع والملّة)
فإنّا نقول فيه: إنّ الأمر بخلاف ما ظنّوه، وذلك أنّ
غيبته لا تُخلّ
بما صدقت الحاجة إليه من حفظ الشرع والملّة،
واستيداعها له، وتكليفها التعرّف في كلّ وقت لأحوال
الأمّة، وتمسّكها بالديانة أو فراقها لذلك إن فارقته،
وهو الشيء الّذي ينفرد به دون غيره من كافّة رعيّته.
ألا ترى أنّ الدعوة إليه إنّما يتولاّها شيعته، وتقوم
الحجّة بهم
في ذلك، ولا يحتاج هو إلى تولّي
ذلك بنفسه، كما كانت دعوة الأنبياء عليهم السلام تظهر
نايباً عنهم
والمقرّين بحقّهم، وينقطع العذر بها فيما يتأتّى
عن علّتهم (كذا) ومستقرّهم، ولا يحتاجون إلى قطع
المسافات لذلك بأنفسهم، وقد قامت أيضاً نايباً عنهم
بعد وفاتهم، وتثبت الحجّة لهم في ثبوتهم
بامتحانهم في حياتهم وبعد موتهم، وكذلك
إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، وقد يتولاّها أمراء
الأئمّة وعمّالهم
دونهم، كما كان يتولّى ذلك أمراء الأنبياء عليهم
السلام وولاتهم،
ولا يخرجونهم
إلى تولّى
ذلك بأنفسهم، وكذلك
القول في الجهاد، ألا ترى أنّه يقوم به الولاة من قبل
الأنبياء والأئمّة دونهم، ويستغنون بذلك عن تولّيه
بأنفسهم.
فعُلم بما ذكرناه أنّ الذي أحوج إلى وجود الإمام ومنع
من عدمه
م(
اختصّ به من حفظ الشرع، الذي لا يجوز ائتمان
غيره عليه
ومراعاة الخلق في أداء ما كلّفوه من أدائه (آدابه).
فمن وجد منهم قائماً بذلك فهو في سعة من الإستتار
والصموت، ومتى وجدهم قد أطبقوا على تركه، وضلّوا عن
طريق الحقّ فيما كلّفوه من نقله ظهر لتولّي ذلك بنفسه
ولم يسعه إهمال القيام به، فلذلك ما وجب في حجّة العقل
وجوده وفسد منها عدمه المباين لوجوده
أو موته المانع له من مراعاة الدين وحفظه، وهذ بيّن
لمن تدبّره.
وشيء آخر، وهو: أنّه إذا غاب الإمام للخوف على نفسه من
القوم الظالمين، فضاعت
لذلك الحدود، وانهملت به الأحكام، ووقع به في الأرض
الفساد، فكان السبب لذلك فعل الظالمين دون الله عزّ
إسمه، وكانوا المأخوذين بذلك المطالبين به دونه.
فلو أماته الله تعالى وأعدم
ذاته، فوقع لذلك الفساد وارتفع بذلك الصلاح، كان سببه
فعل الله دون العباد، ولن يجوز من الله تعالى سبب
الفساد، ولا رفع
ما يرفع الصلاح.
فوضح بذلك الفرق بين (موت) الإمام وغيبته واستتاره
وثبوته، وسقط ما اعترض المستضعفون فيه من الشبهات،
والمنّة لله.
* * *
الفصل الثامن
( ما الفرق بين قول الإمامية في الغيبة وقول سائر
الفرق الشيعيّة؟)
فأمّا قول المخالفين: إنّا قد ساوينا بمذهبنا في غيبة
صاحبنا عليه السلام السبائية
في قولهم: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمُ يقتل
وأنّه حيّ موجود، وقول الكيسانية في محمد بن الحنفية،
ومذهب الناووسية: في أنّ الصادق جعفر بن محمّد عليه
السلام لم يمت، وقول الممطورة في موسى بن جعفر عليه
السلام أنّه لم يمت
وأنّه حيّ إلى أن يخرج بالسيف، وقول أوائل الإسماعيلية
وأسلافها: أنّ إسماعيل بن جعفر هو المنتظر وأنّه حيّ
لم يمت، وقول بعضهم
مثل ذلك في محمّد بن إسماعيل،
وقول الزيدية مثل ذلك
فيمن قتل من أئمّتها حتّى قالوه في يحيى بن عمر
المقتول بشاهي.
وإذا كانت
هذه الأقاويل باطلة عند الإماميّة، وقولها في غيبة
صاحبها نظيرها، فقد بطلت أيضاً ووضح فسادها.
فصل: (بطلان معتقد سائر الفرق وصحة معتقد الإمامية)
فإنّا نقول: إنّ هذا توهّمٌ من الخصوم لو تيقّظو(
لفساد ما اعتمدوه في حجاج أهل الحقّ وظنّوه نظيراً
لمقالهم: وذلك أنّ قتل من سمّوه قد كان محسوساً مدركاً
بالعيان، وشهد
به أئمّة قامو(
بعدهم ثبتت إمامتهم بالشيء الذي به ثبتت
إمامة من تقدّمهم، والإنكار للمحسوسات باطلٌ عند كافّة
العقلاء، وشهادة الأئمّة المعصومين بصحّة موت الماضين
منهم مزيلة لكلّ ريبة، فبطلت الشبهة فيه على ما
بيّناه.
وليس كذلك قول الإماميّة في دعوى وجود صاحبهم عليه
السلام ، لأنّ دعوى وجود صاحبهم عليه السلام لا تتضمّن
دفع المشاهد، ولا له إنكار المحسوس،
ولا قام بعد الثاني عشر من أئمّة الهدى عليهم السلام
إمامٌ عدلٌ معصومٌ يشهد بفساد دعوى الإماميّة أو وجود
إمامها وغيبته.
فأيّ نسبة بين الأمرين، لولا التحريف في الكلام،
والعمل على أوّل خاطر يخطر للإنسان من غير فكرٍ
فيه ولا إثبات.
فصل: (عدم إنكار غيبة الآخرين)
ونحن فلم
ننكر غيبة من سمّاه الخصوم لتطاول زمانها، فيكون ذلك
حجّةً علينا في تطاول مدّة غيبة صاحبنا، وإنّما
أنكرناها بما ذكرناه من المعرفة واليقين بقتل من قُتل
منهم، وموت مَن مات من جملتهم، وحصول العلم بذلك من
جهة الإدراك بالحواسّ.
ولأنّ في جملة مَن ذكروه من لم يثبت له إمامة من
الجهات التي تثبت لمستحقّها على حال، فلا يضرّ لذلك
دعوى من ادّعى له الغيبة والاستتار.
ومن تأمّل ما ذكرناه عرف الحقّ منه، ووضح له الفرق
بيننا وبين الضالّة من المنتسبين إلى الإماميّة
والزيديّة، ولم
يخفَ الفصل بين مذهبنا في صاحبنا عليه السلام ومذاهبهم
الفاسدة بما قدّمناه، والمنّة لله.
* * *
الفصل التاسع
(الغيبة واستمرار الإمامة)
وهو قول الخصوم: إنّ
الإماميّة تناقض مذهبها في إيجابهم الإمامة،
وقولهم بشمول
المصلحة للأنام بوجود الإمام وظهوره وأمره ونهيه
وتدبيره، واستشهادهم على ذلك بحكم العادات في عموم
المصالح بنظر السلطان العادل وتمكّنه من
البلاد والعباد.
وقولهم مع ذلك: إنّ الله تعالى قد أباح للإمام
الغيبة عن الخلق، وسوّغ له
الإستتار
عنهم، وأنّ ذلك هو المصلحة وصواب التدبير للعباد.
وهذه مناقضة لا تخفى على العقلاء.
فصل: (اختلاف المصالح باختلاف الأحوال)
وأقول: إنّ هذه الشبهة الداخلة على المخالف إنّما
استولت عليه لبُعده عن سبيل الاعتبار، ووجوه
الصلاح وأسباب الفساد، وذلك أنّ المصالح تختلف باختلاف
الأحوال، ولا تتّفق مع تضادّها، بل يتغيّر تدبير
الحكماء في حسن النظر والاستصلاح بتغيّر
آراء المستصلحين وأفعالهم وأغراضهم في الأعمال.
ألا ترى أنّ الحكيم من البشر يدبّر ولده وأحبّته
وأهله وعبيده وحشمه بم(
يكسبهم
المعرفة والآداب، ويبعثهم على الأعمال الحسنات،
ليستثمرو(
بذلك المدح وحسن الثناء والإعظام من كلّ أحدٍ
والإكرام، ويمكّنوهم من المتاجر والمكاسب للأموال،
لتتّصل مسارّهم بذلك، وينالوا بما يحصل لهم من الأرباح
الملذّات،
وذلك هو الأصلح لهم، مع توقّرهم
على ما دبّرهم به من أسباب ما ذكرناه.
فمتى أقبلوا على العمل بذلك والجدّ فيه، أداموا لهم ما
يتمكّنون به منه، وسهّلوا عليهم سبيله، وكان ذلك
هو الصلاح العام، وما أخذوا بتدبيرهم إليه، وأحبّوه
منهم وأبرّوه لهم.
وإن عدلوا عن ذلك إلى السفه والظلم، وسوء الأدب
والبطالة، واللهو واللعب، ووضع المعونة على الخيرات في
الفساد، كانت المصلحة لهم قطع موادّ السعة
عنهم في الأموال، والاستخفاف بهم، والإهانة والعقاب.
وليس في ذلك تناقض بين أغراض العاقل، ولا تضادّ في
صواب التدبير والإستصلاح.
وعلى الوجه الذي بيّناه كان تدبير الله تعالى لخلقه،
وإرادته عمومهم بالصلاح.
ألا ترى أنّه خلقهم فأكمل عقولهم وكلّفهم الأعمال
الصالحات، ليكسبهم
بذلك حال(
في العاجلة، ومدحاً وثناءً حسناً وإكراماً وإعظاماً
وثواباً في الآجل، ويدوم نعيمهم في دار المقام.
فإن تمسّكوا بأوامر الله ونواهيه وجب في الحكم إمدادهم
بما يزدادون به منه، وسهّل عليهم سبيله، ويسّره لهم.
وإن خالفوا ذلك وعصوه تعالى وارتكبوا نواهيه، تغيّرت
الحال فيما يكون فيه استصلاحهم، وصواب التدبير لهم،
يوجب
قطع موادّ
التوفيق عنهم، وحسن منه ذمّهم وحربهم، ووجب عليهم
به العقاب، وكان ذلك هو الأصلح لهم
والأصوب
في تدبيرهم ممّا كان يجب في الحكمة لو أحسنوا ولزموا
السداد.
فليس ذلك بمتناقض في العقل ولا متضادّ في قول أهل
العدل، بل هو ملتئم على المناسب والاتّفاق.
فصل: (اختلاف المصلحة في الظهور والغيبة)
ألا ترى أنّ الله تعالى دعا الخلق إلى الإقرار به،
وإظهار التوحيد والإيمان برسله عليهم السلام لمصلحتهم،
وأنّه لا شيء أصوب في تدبيرهم من ذلك، فمتى اضطرّوا
إلى إظهار كلمة الكفر للخوف على دمائهم، كان الأصلح
لهم والأصوب في تدبيرهم ترك الإقرار بالله، والعدول عن
إظهار التوحيد والمظاهرة بالكفر بالرسل، وإنّما تغيّرت
المصلحة بتغيّر الأحوال، وكان في تغيّر التدبير الّذي
دبّرهم الله به فيما خلقهم له مصلحة للمتّقين، وإن كان
ما اقتضاه من فعل الظالمين قبيحاً منهم ومفسدةً
يستحقّون به العقاب الأليم.
وقد فرض الله تعالى الحجّ والجهاد وجعلهما صلاحاً
للعباد، فإذا تمكّنوا منه عمّت به المصلحة، وإذا منعوا
منه بإفساد المجرمين كانت المصلحة لهم تركه والكفّ
عنه، وكانوا في ذلك معذورين، وكان المجرمون به ملومين.
فهذا نظيرٌ لمصلحة الخلق بظهور الأئمّة عليهم السلام
وتدبيرهم إيّاهم متى أطاعوهم وانطووا على النصرة لهم
والمعونة، وإن عصوهم وسعوا في سفك دمائهم تغيّرت الحال
فيما يكون به تدبير مصالحهم، وصارت المصلحة له ولهم
غيبته وتغييبه
واستتاره، ولم يكن عليه في ذلك لوم، وكان الملوم
هو المسبّب له بإفساده وسوء اعتقاده.
ولم يمنع كون الصلاح باستتاره
وجوب وجوده وظهوره، مع العلم ببقائه وسلامته وكون
ذلك هو الأصلح والأولى في التدبير، وأنّه الأصل
الذي أجرى
بخلق العباد إليه وكلّفوا من أجله حسبما ذكرناه.
فصل: (عدم وجود أيّ تناقض بين الغيبة والإمامة)
فإنّ الشبهة الداخلة على خصومنا في هذا الباب،
واعتقادها أنّ مذهب الإماميّة في غيبة إمامها مع عقدها
في وجوب الإمامة متناقضّ، حسبما ظنّوه في ذلك
وتخيّلوه، لا يدخل إلاّ على عمىً منهم مضعوف بعيد عن
معرفة مذهب سلفه وخلفه في الإمامة، لا يشعر بما يرجع
إليه في مقالهم به.
وذلك أنّهم بين رجلين:
أحدهما: يوجب الإمامة عقلاً وسمعاً، وهم البغداديّون
من المعتزلة
وكثير من المرجئة.
والآخر: يعتقد وجوبها (
سمعاً وينكر أن تكون العقول توجبها، وهم البصريّون من
المعتزلة
وجماعة المجبّرة
وجمهور الزيدية.
|