(ذكر المعمّرين):
والأخبار متناصرة بامتداد أيّام المعمّرين من
العرب والعجم والهند، وأصناف البشر وأحوالهم الّتي
كانوا عليها مع ذلك، والمحفوظ من حكمهم مع تطاول
أعمارهم، والمأثور من تفصيل قصاتهم
من أهل أعصارهم وخطبهم وأشعارهم، لا يختلف أهل
النقل في صحّة الأخبار عنهم بما ذكرناه، وصدق
الروايات في أعمارهم وأحوالهم كما وصفناه.
وقد أثبتُّ أسماء جماعة منهم في كتابي المعروف بـ
الإيضاح في الإمامة، وأخبار كافّتهم مجموعة مؤلّفة
حاصلة في خزائن الملوك، وكثير من الرؤساء، وكثير
من أهل العلم وحوانيت الورّاقين،
فمن أحبّ الوقوف على ذلك فليلتمسه من الجهات
المذكورة، يجدها على ما يثلج صدره، ويقطع بتأمّل
أسانيدها في الصّحة له عذره، إن شاء الله تعالى.
وأنا اُثبتُ مِن ذكر بعضهم ها هنا جملةً تُقنع،
وإن كان الوقوف على أخبار كافّتهم
أنجع فيما نؤمه
بذكر البعض إن شاء الله.
فمنهم: لقمان بن عاد الكبير.
وكان أطول الناس عمراً بعد الخضر عليه السلام ،
وذلك أنّه عاش على رواية العلماء بالأخبار ثلاثة
آلاف
سنة وخمسمائة سنة، وقيل: إنّه عاش عمر سبعة أنسر،
وكان يأخذ فرخ النسر فيجعله في الجبل فيعيش النسر
منها ما عاش، فإذا مات أخذ آخر فربّاه، حتّى كان
آخرها لبد، وكان أطولها عمراً، فقيل: طال الأمد
على لبد.
وفيه يقول الأعشى:
لنفسك إذ تختار سبعة أنسر
إذا ما مضى نسـرٌ خلدتَ
إلى نسرِ
فعمّر حتّى خال أنّ نسـوره
خلودٌ وهل تبقى النفوس على الدهر
وقال لأدناهنّ إذ حلّ
ريشه هلكتَ وأهلكت ابن
عادٍ وما تدري
ومنهم: رُبَيْعُ بن ضُبيع
بن وَهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عَدِي
بن فزارة.
عاش ثلاثمائة سنة وأربعين سنة، وأدرك النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم ولم يسلم.
وهو الذي يقول وقد طعن في ثلاثمائة سنة:
أصبح منّي الشباب قد حسرا(
إن ين(
عنّي فقد ثرى عصرا
والأبيات معروفة.
وهو الذي يقول أيضاً منه:
|
إذا كان الشتاء فأدفئوني
وأمّا حين يذهب كلّ قرّ
إذا عاش الفتـى مأتين
عامـاً |
|
فإنّ الشيخ يهدمه الشتاءُ
فسربالٌ خفيف أو رداء
فقد أودى المسـرّة والفتـاء |
ومنهم: المستوغر بن ربيعة بن كعب.
عاش ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين سنة.
وهو الّذي يقول:
|
ولقد سئمت من الحياة وطولها
مائةٌ حَدَتْـها بعدهـا
مائتان لي |
|
وعمرت من عدد السنين مئينا(
وعمِرْتُ من عدد
الشهورِ سنينا( |
ومنهم: أكثم بن صيفي الأسدي.
عاش ثلاثمائة سنة وثمانين سنة، وكان مّمن أدرك
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وآمن به ومات قبل
أن يلقاه، وله أحاديث كثيرة وحِكم وبلاغات وأمثال.
وهو القائل:
|
وإنّ امرأ قد عاش تسعين حجّة
خلت مائتان بعد عشر وفائها( |
|
إلى مأةٍ لم يسأم العيش جاهلُ
وذلك من عدّي ليالٍ
قلائل |
وكان والده صيفي بن رياح بن أكثم
أيضاً من المعمّرين.
عاش مائتين وستة وسبعين سنة، ولا ينكر من عقله
شيء،
وهو المعروف بذي الحلم الّذي قال فيه المتلمّس
اليشكري:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا(
وما علّم الإنسان إلاّ ليعلما(
ومنهم: ضُبَيْرة بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو.
عاش مائتي سنة وعشرين سنة، فلم
يشب قطّ، وأدرك الإسلام ولم يسلم. وروى أبو حاتم
(و) الرياشي،
عن العتبي،
عن أبيه أنّه قال: مات ضُبَيْرة السهمي وله مائتا
سنة وعشرون سنة، وكان أسود الشعر صحيح الأسنان.
ورثاه ابن عمّه قيس بن عدي فقال:
|
من يأمن الحدثان بعـ
سبقت منيّته المشيـ
فتــزوّدوا لا تهلكــوا( |
|
ـد ضبيرة
السهمي ماتا
ـب وكان
ميتته افتلاتا
مـن دون أهلكـم خفاتا( |
ومنهم: دريد بن الصمّة الجشمي.
عاش مائتي سنة، وأدرك الإسلام فلم يسلم، وكان أحد
قوّاد المشركين يوم حُنين ومقدّمهم،
حضر حرب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقُتل
يومئذٍ.
ومنهم: محصّن بن عتبان
بن ظالم الزبيدي.
عاش مائتي سنة وخمسة وخمسين سنة.
ومنهم: عمرو بن حممة الدوسي.
عاش أربعمائة سنة.
وهو الذي يقول:
|
كبرت وطال العمر حتّى كأنّني
فما الموت أفناني ولكن تتابعت
ثلاث مئات قد مررن كواملاً |
|
سليمُ أفاعٍ ليله غير مودعِ
عليَّ سنون من مصيف ومربعِ
وها أنا هذا أرتجي نيل
أربع |
ومنهم: الحرث
بن مضاض الجرهمّي.
عاش أربعمائة سنة.
وهو القائل:
كأن لم يكن بين الحجون
إلى الصفا أنيسٌ ولم يسمر
بمكّة سامرُ
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا(
صروف الليـالي والجـدود
العـواثر
وفي غير من ذكرت يطول بإثباته جزء الكتاب.
والفرس تزعم أنّ قدماء ملوكها جماعات طالت أعمارهم
وامتدّت، وزادت في الطول على أعمار من أثبتنا اسمه
من العرب، ويذكرون أنّ من جملتهم الملك الّذي
استحدث المهرجان، عاش ألفي سنة وخمسمائة سنة.
لم نتعرّض لشرح أخبارهم، لظهور ما قصصته من أمر
العرب من أعمارهم على ما تدّعيه الفرس، ولقرب
عهدها منّا وبُعد عهد أولئك، وثبوت أخبار معمّري
العرب في صحف أهل الإسلام وعند علمائهم.
وقد أسلفت القول بأنّ المنكر لتطاول الأعمار إنّما
هم طائفة
من المنجّمين وجماعة من الملحدين، فأمّا أهل الكتب
والملل فلا يختلفون في صحّة ذلك وثبوته.
فلو لم يكن من جملة المعمّرين إلاّ من التنازع في
طول عمره مرتفع، وهو سلمان الفارسي
رحمة الله عليه، وأكثر أهل العلم يقولون: بأنّه
رأى المسيح، وأدرك النبيّ صلوات الله عليه وآله،
وعاش بعده، وكانت وفاته في وسط أيام عمر بن
الخطاب،
وهو يومئذ القاضي بين المسلمين في المدائن،
ويقال: أنّه كان عاملها وجابي خراجها، وهذا أصحّ.(59)
وفيما أسلفناه في هذا الباب كفاية فيما قصدناه،
والحمد لله.