|
فأمّا بعد
انقراض مَن سمّيناه من أصحاب أبيه وأصحابه عليهما
السلام ، فقد كانت الأخبار عمّن تقدّم من أئمّة آل
محمد عليهم السلام
متناصرة: بأنّه لابدّ للقائم المنتظر من غيبتين،
إحداهم(
أطول من الأخرى، يعرف خبره الخاصُّ في القصرى، ولا
يعرف العامُّ له مستقراً في الطولى، إلاّ من تولّى
خدمته من ثقاة
أوليائه، ولم ينقطع عنه إلى الاشتغال بغيره.
والأخبار
بذلك موجودة في مصنّفات الشيعة الأمامية قبل مولد أبي
محمّد وأبيه وجدّه عليهم السلام ،
وظهر حقّها عند مضيّ الوكلاء والسفراء الذين سمّيناهم
رحمهم الله، وبان صدق رواتها بالغيبة الطولى، فكان
ذلك من الآيات الباهرات في صحّة ما ذهبت إليه
الإماميّة، ودانت به في معناه.
وليس يمكن أن يخرج عن عادة أزماننا هذه غيبة بشرٍ، لله
تعالى في استتاره تدبيرٌ لمصالح خلقه لا يعلمها إلاّ
هو، وامتحانٌ لهم بذلك في عبادته، مع أنّا لم نُحِط
علماً بأنّ كلَّ غائبٍ عن
الخلق مستترا(
بأمر دينه لأمرٍ يؤمّه
عنهم _ كما ادعاه الخصوم _ يعرف جماعةٌ من الناس
مكانه، ويخبرون عن مستقرّه.
(غيبة بعض الأنبياء
عليهم السلام)
وكم وليّ لله
تعالى، يقطع الأرض بعبادة ربّه تعالى، والتفرّد من
الظالمين بعمله، ونأى بذلك عن دار المجرمين، وتبعّد
بدينه عن محلّ الفاسقين، لا يعرف أحدٌ من الخلق له
مكاناً، ولا يدّعي انسان له لقاءً ولا معه اجتماعاً.
وهو الخضر عليه السلام ، موجود قبل زمان موسى عليه
السلام إلى وقتنا هذا، بإجماع أهل النقل واتّفاق أصحاب
السير والأخبار، سائحاً في الأرض، لا يعرف له أحدٌ
مستقراً ولا يدّعي له اصطحاباً، إلاّ ما جاء في القرآن
به من قصّته مع موسى عليه السلام ،
وما يذكره بعض الناس من أنّه يظهر أحياناً ولا يُعرف،
ويظنّ بعض من رآه
أنّه بعض الزّهاد، فإذا فارق مكانه توهّمه المسمّى
بالخضر، وإن لم يكن يعرف بعينه في الحال ولا ظنّه، بل
اعتقد أنّه بعض أهل الزمان.
وقد كان من غيبة موسى بن عمران عليه السلام عن وطنه
وفراره
من فرعون ورهطه ما نطق به الكتاب،
ولم يظهر عليه أحدٌ مدّة غيبته عنهم فيعرف له مكاناً،
حتّى ناجاه الله عز وجل وبعثه نبيّاً، فدعا إليه وعرفه
الوليّ والعدوّ إذ ذاك.
وكان من قصّة يوسف بن يعقوب عليهما السلام ما جاءت به
سورة كاملة بمعناه،
وتضمّنت ذكر استتار خبره عن أبيه، وهو نبيّ الله تعالى
يأتيه الوحي منه سبحانه صباحاً ومساءً، وأمرهُ مطويٌّ
عنه وعن إخوته، وهم يعاملونه ويبايعونه ويبتاعون منه
ويلقونه
ويشاهدونه فيعرفهم ولا يعرفونه، حتّى مضت على ذلك
السنون، وانقضت
فيه الأزمان، وبلغ من حزن أبيه عليه السلام عليه
_ لفقده، ويأسه من لقائه، وظنّه خروجه من الدنيا
بوفاته _ ما انحنى له ظهره، وأنهك
به جسمه، وذهب لبكائه عليه بصره.
وليس في زمانن(
الآن مثل
ذلك، ولا سمعنا بنظير له في سواه.
وكان من أمر يونس نبيّ الله عليه السلام مع قومه،
وفراره عنهم عند تطاول المدّة في خلافهم عليه
واستخفافهم بحقوقه، وغيبته عنهم لذلك عن كلّ أحدٍ من
الناس، حتّى لم يعلم بشرٌ من الخلق مستقرّه ومكانه
إلاّ الله تعالى، إذ كان المتولّي لحبسه في جوف حوت في
قرار بحرٍ، وقد أمسك عليه رمقه حتّى بقي حيّاً، ثمّ
أخرجه من ذلك إلى تحت شجرةٍ من يقطين، بحيث لم يكن له
معرفة بذلك المكان من الأرض، ولم يخطر له ببال سكناه.
وهذا أيضاً خارج عن عادتنا،
وبعيد من تعارفنا، وقد نطق به القرآن،
وأجمع عليه أهل الإسلام وغيرهم من أهل الملل والأديان.
وأمر أصحاب الكهف نظيرٌ لِما ذكرناه، وقد نزل القرآن
بخبرهم وشرح أمرهم:
في فرارهم بدينهم من قومهم، وحصولهم في كهف ناءٍ عن
بلدهم، فأماتهم الله فيه وبقي كلبهم باسطاً ذراعيه
بالوصيد، ودبّر أمرهم في بقاء أجسامهم على حال أجساد
الحيوان لا يلحقها بالموت تغيّر،
فكان
يقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال كالحيّ الّذي يتقلّب
في منامه بالطبع والاختيار، ويقيهم حرّ الشمس الّتي
تغيّر الألوان، والرياح التي تمزّق الأجساد، فبقوا على
ذلك ثلاث مائة سنة وتسع سنين، على ما جاء به الذكر
الحكيم.
ثمّ أحياهم فعادوا(
إلى معاملة قومهم ومبايعتهم، وأنفذوا إليهم بورِقهم
ليبتاعوا منهم أحلّ الطعام وأطيبه وأزكاه، بحسب ما
تضمّن القرآن من شرح قصّتهم،
مع استتار أمرهم عن قومهم، وطول غيبتهم عنهم، وخفاء
أمرهم عليهم.
وليس في عادتنا(
مثل ذلك ولا عرفناه، ولولا أنّ القرآن جاء بذكر هؤلاء
القوم وخبرهم وما ذكرناه من حالهم، لتسرّعت الناصبة
إلى إنكار ذلك كما يتسرّع إلى إنكاره الملحدون
والزنادقة والدهريون، ويحيلون صحّة الخبر به، وقد
تقول: لن يكون
في المقدور.
وقد كان من أمر صاحب الحمار الّذي نزل بذكر قصّته
القرآن،
وأهل الكتاب يزعمون أنّه نبيّ الله تعالى، وقد كان
(مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ
خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها)
فاستبعد عمارته(
وعودها إلى ما كانت عليه، ورجوع الموتى منها بعد
هلاكهم بالوفاة، فـ
(قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ
اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ
عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)
وبقي طعامه وشرابه بحاله
لم يغيّره تغيير طبائع
الزمان كلّ طعام وشراب عن حاله، فجرت بذلك العادة في
طعام صاحب الحمار وشرابه، وبقي حماره قائماً في مكانه
لم ينفق
ولم يتغيّر عن حاله، حيّ
يأكل ويشرب، لم يضرّه طول عمره ولا أضعف ولا غيّر له
صفةً من صفاته.
فلمّا أحياه
الله تعالى _ المذكور بالعجب من حياة الأموات وقد
أماته مائة عام _ قال له:
(انْظُرْ إِلى طَعامِكَ
وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ)، يريد به: لم
يتغيّر بطول مدّة بقائه. (وَانْظُرْ
إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها)، يعني:
عظام الأموات من الناس كيف نُخرجها من تحت التراب (ثُمَّ
نَكْسُوها لَحْماً) فتعود حيواناً كما كانت بعد
تفرّق أجزائها واندراسها بالموت (فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ) ذلك وشاهد الأعجوبة فيه (قالَ
أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وهذا منصوص في القرآن، مشروح في الذكر والبيان،
لا يختلف فيه المسلمون وأهل الكتاب، وهو خارج عن
عادتنا،
وبعيد من تعارفنا، منكر عند الملحدين، ومستحيل على
مذهب الدهريّين والمنجّمين، وأصحاب الطبائع من
اليونانيّين وغيرهم من المدّعين الفلسفة والمتطبّبين.
على (أنّ)
ما يذهب إليه الإمامية في تمام استتار صاحبها وغيبته،
ومقامه على ذلك طول مدّته أقرب في العقول والعادات
(ممّا) أوردناه
من أخبار المذكورين في
القرآن.
فأيّ طريق للمقرّ بالإسلام إلى إنكار مذهبنا في ذلك،
لولا أنّهم بعداء من التوفيق، مستمالون
بالخذلان.
* * *
(غيبة بعض الملوك والحكماء)
وأمثال ما ذكرناه _ وإن لم يكن قد جاء به القرآن _
كثيرٌ، قد رواه أصحاب الأخبار، وسطّره في الصحف أصحاب
السير والآثار:
من غيبات ملوك الفرس عن رعاياهم دهراً طويلاً لضروبٍ
من التدبيرات، لم يعرف أحدٌ لهم فيها مستقراً، ولا عثر
لهم على موضع ولا مكان، ثمّ ظهروا بعد ذلك، وعادوا إلى
ملكهم بأحسن حال، وكذلك جماعةٌ من حكماء الروم والهند
وملوكهم.
فكم
كانت لهم غيباتٌ وأخبارٌ بأحوالٍ تخرج عن العادات.
لم نتعرّض لذكر شيءٍ من ذلك، لعلمنا بتسرّع الخصوم إلى
إنكاره، لجهلهم ودفعهم صحّة الأخبار به، وتعويلهم في
إبطاله
على بعده من عاداتهم وعرفهم.
فاعتمدنا القرآن فيما يحتاج إليه منه، وإجماع أهل
الإسلام، لإقرار
الخصم بصحّة ذلك وأنّه من عند الله تعالى، واعترافهم
بحجّة الإجماع.
وإنْ كنّا نعرف من كثيرٍ منهم نفاقهم بذلك، ونتحقّق
استبطانهم
بخلافه، لعلمنا بإلحادهم في الدين واستهزائهم به،
وأنّهم كانوا ينحلون بظاهره خوفاً من السيف وتصنّعاً
أيضاً، لاكتساب الحطام به من الدنيا، ولولا ذلك لصرّحو(
بما ينتمون، وظاهرو(
بمذاهب
الزنادقة الّتي بها يدينون ولها يعتقدون.
ونعوذ بالله من سيّء الاتفاق،
ونسأله العصمة من الضلال.
* * *
الفصل السادس
( طول العمر)
تعلّق الخصوم بانتقاض العادة في دعوى طول عمره، وبقائه
على تكامل أدواته
منذ
ولد على قول الإماميّة
في سنّي عشر الستين والمائتين وإلى
يومنا هذا وهو سنة أحد عشر وأربعمائة، وفي حملهم
في بقائه وحاله وصفته الّتي يدّعونه(
له بخلاف حكم العادات، وأنّه يدلّ على فساد معتقدهم
فيه.
فصل: (ردّ شبهة الخصوم في مسألة طول العمر)
والذي تخيّله
الخصوم هو: فساد قول الإماميّة
بدعواهم لصاحبهم طول العمر، وتكامل أدواته فيه، وبقائه
إلى يومنا هذا وإلى وقت ظهوره بالأمّة،
على حال الشبيبة،
ووفارة
العقل والقوّة، والمعارف بأحوال الدين والدنيا.
وإن خرج عمّا نعهده نحن
الآن من أحوال البشر، فليس بخارج عن عادات سلفت
لشركائه في البشريّة وأمثالهم في الإنسانية.
وما جرت به عادة في بعض الأزمان لم يمتنع وجوده في
غيرها، وكان حكم مستقبلها كحكم ماضيها على البيان.
ولو لم تجر عادةٌ بذلك جملةً
لكانت الأدلّة على أن الله تعالى قادرٌ على فعل ذلك
تُبطل
توهّم المخالفين للحقّ فساد القول به وتكذّبهم
في دعواهم.
وقد أطبق العلماء من أهل الملل وغيرهم أنّ آدم أبا
البشر عليه السلام عمّر نحو الألف،
لم يتغيّر له خلقٌ، ولا انتقل من طفوليّة إلى شبيبة،
ولا عنها إلى هرم، ولا عن قوّة إلى عجز، ولا عن علم
إلى جهل، وأنّه لم يزل على صورة واحدة إلى أن قبضه
الله عز وجل إليه.
هذا مع الأعجوبة في حدوثه من غير نكاح، واختراعه من
التراب من غير بدوٍ،
وانتقاله من طينٍ لازب إلى طبيعة الإنسانية، ولا واسطة
في صنعته على اتّفاق مَن ذكرناه من أهل الكتب حسب ما
بيّناه.
والقرآن في ذلك ناطق
ببقاء نوح نبيّ الله عليه السلام في قومه تسعمائة سنة
وخمسين سنة للإنذار لهم خاصّة، وقبل ذلك ما كان له من
العمر الطويل إلى أن بُعث نبيّاً من غير ضعفٍ كان به
ولا هرم، ولا عجزٍ ولا جهلٍ، مع امتداد بقائه، وتطاول
عمره في الدنيا، وسلامة حواسّه.
وأنّ الشيب
أيضاً لم يحدث في البشر قبل حدوثه في إبراهيم الخليل
عليه السلام
بإجماع مَن سمّيناه من أهل العلم من المسلمين خاصّة
كما ذكرناه.
وهذا ما لا يدفعه إلاّ الملحدة من المنجّمين، وشركاؤهم
في الزندقة من الدهريّين، فأمّا أهل الملل كلّها فعلى
اتّفاق منهم
على ما وصفناه.
* * *
|