غيبة الإمام المهدي ::: 46 ـ 60
(46)
الصواب !! (1).
    هذه هي رتبة حديث الثقلين الشريف بلفظ : « كتاب الله وعترتي ... » عند علماء العامّة ، وبهذا تُعلم قيمة إعراض البخاري في صحيحه عن رواية هذا الحديث ، وقيمة الشبهات التي أثارها ويثيرها بعض الجهلة من هنا وهناك بشأن صحة هذا الحديث تارة أو دلالته تارة اُخرى (2).

    ثالثاًً ـ علم الصحابة بالمعنيين بحديث الثقلين :
    إنّ العودة السريعة إلى أزمان صدور الحديث (3) تؤكد لنا أهمية حديث الثقلين ( القرآن والعترة ) ، وقيمة إرجاع الأمة فيه إلى العترة لأخذ الدين الحقّ عنهم ، وتزداد أهميته كثيراًً بالوقوف على أسباب ألتاكيد عليه في مناسبات مختلفة ونُوَب متفرِّقة ؛ منها في يوم الغدير ، وآخرها في
1 ـ شرح الزرقاني على المنظومة البيقونية لأبي الفتوح البيقوني : 57 ـ 59 ، القسم الأول ( الحديث الصحيح ) ، وفيض الساري 1 : 57.
2 ـ راجع : حديث الثقلين / السيد على الحسيني الميلاني. ( كتبه ردّاً على بعض من تخرّص باطلاً بشأن حديث الثقلين الشريف ).
3 ـ الثابت هو أن حديث الثقلين الشريف قد أكّده رسول الله صلّى الله عليه وآله على أُمّته في أكثر من مكان وزمان ؛ فمرّة في حجة الوداع كما في حديث جابر ، واُخرى عند منصرفه من الطائف كما في حديث عبدالرحمن بن عوف ، وثالثة في الجحفة قرب غدير خم كما في حديث زيد بن أرقم وغيره ، ورابعة في مرض موته صلّى الله عليه وآله كما في حديث اُم سلمة وقد امتلأت الحجرة من أصحابه ، وخامسة في المسجد النبوي الشريف قبل وفاته صلّى الله عليه وآله بيومين أو ثلاثة ، وغيرها كما يتضح من مراجعة مصادر الحديث السابقة.


(47)
مرضه صلّى الله عليه وآله الأخير.
    هذا فضلاًًً عن تأكيده صلّى الله عليه وآله المستمر على الاقتداء بعترته أهل بيته ، والاهتداء بهديهم ، والتحذير من مخالفتهم ، وذلك بجعلهم : تارة كسفن للنجاة ، واُخرى أماناً للأُمّة ، وثالثة كباب حطّة.
    وفي الواقع لم يكن الصحابة بحاجة إلى سوال واستفسار من النبيِّ صلّى الله عليه وآله لتشخيص المراد بأهل البيت ، وهم يرونه وقد خرج للمبالهة وليس معه غير أصحاب الكساء وهو يقول : « اللّهم هؤلاء أهلى » وهم من أكبر الناس معرفة بخصائص هذا الكلام ، وإدراكاً لما ينطوي عليه من قصر واختصاص.
    خصوصاًً وقد علموا كيف جذب صلّى الله عليه وآله طرف الكساء من يد اُم سلمة ومنعها من الدخول مع أهل بيته قائلاًً لها « إنك إلى خير » (1).
    وشاهدوه أيضاًًً وهو يقف صلّى الله عليه وآله على باب فاطمة عليه السّلام صباح كل يوم ولمدة وتسعة أشهر وهو يقرأ : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (2). (3)
1 ـ تفسير الطبري 22 : 5 ـ 7 ، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي المالكي 14 : 182 ، وتفسير ابن كثير 3 : 492 ، والدر المنثور / السيوطي 3 : 603 ـ 604 ، وفتح الغدير / الشوكاني 4 : 279 كلهم في تفسير آية التطهير ، واُنظر : سنن الترمذي 5 : 699 / 3871 ومستدرك الحاكم 2 : 426.
2 ـ سورة الأحزاب : 33 / 33.
3 ـ راجع : الأحاديث الواردة في وقوف النبي صلّى الله عليه وآله على باب فاطمة عليها السّلام وهو يقرأ آية التطهير في تفسير الطبري 22 : 6.


(48)
    وکلّ هذا يکفي لمن شاهد ذلك أو سمع به من الصحابة لأن يعرف من هم أهل البيت عليه السّلام ، وأما ما يقال بأن معرفة الصحابة بأهل البيت كانت مقتصرة على أصحاب الكساء عليهم السّلام ، في حين أشار الحديث إلى استمرار وجودهم مع القرآن ليكونا لأن تمسّك بهما عاصمين من الضلالة إلى يوم القيامة ، وهذا يبرر لهم السؤال عمّن سيأتي بعد أصحاب الكساء عليهم السّلام من أهل البيت لكي تعرف الأمة أسماءهم ولا يشتبه أحد بهم.
    والجواب : إن حاجة الصحابة والأجيال اللاحقة فيما بعد ليس أكثر من تشخيص أولهم ليكون المرجع للقيام بمهمَّته بعد النبيِّ صلّى الله عليه وآله حتى يأخذ دوره في عصمة الأُمّة من الضلالة ، وهو بدوره مسؤول عن تعيين من يليه في هذه المهمَّة ، وهكذا حتى يرد آخر عاصم من الضلالة مع القرآن على النبيِّ صلّى الله عليه وآله الحوض.
    واذا علمت أنَّ عليَّاً عليه السّلام قد تعيّن بنصوص لاتُحصى ، ومنها : في حديث الثقلين نفسه ، فليس من الضروري اذن أنْ يتولّى النبيِّ صلّى الله عليه وآله بنفسه تعيين من يلي أمر الأُمّة بأسمه في كل عصر وجيل ، أنْ لم نقل إنَّه غير طبيعي لولا أنْ تقتضيه بعض الاعتبارات (1).
    فالمقياس إذنْ في معرفة امام كلِ عصر وجيل : إمَّا أن يكون بتعيينهم دفعة واحدة ، أو بنصّ السابق على إمامة الالحق وهو المقاس الطبيعي المألوف الذي دأبت عليه الأنبياء والأوصيّاء عليهم السّلام ، وعرفته البشرية في سياساتها منذ أقدم العصور وإلى يوم الناس هذا.
1 ـ راجع : الأصول العامة للفقه المقارن / السيد محمد تقي الحكيم : 175.

(49)
    ومع هذا فإن الصحابة لم يكونوا على جهل تام بهوية من سيأتي بعد أصحاب الكساء عليهم السّلام ، إذ علموا مسبقاً بعدد الأئمة بعد النبي صلّى الله عليه وآله وهم اثنا عشر على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله كما سيأتي في القاعدة الرابعة ، وفيهم من علم أسماءهم عليهم السّلام من رسول الله صلّى الله عليه وآله مباشرة كجابر بن عبد الله الأنصاري (1) ، وابن عباس (2) وسلمان الفارسي رضي الله عنه (3) ، هذا فضلاًً عمن علم منهم بانحدار بقية أهل البيت من صلب الإمام الحسين عليه السّلام ، وإن عددهم لا يزيد ولا ينقص عن تسعة ، وإن تاسعهم هو المهدي الموعود ، ومن جملة من علم ذلك ، أبو سعيد الخدري ، وأبو أيوب الأنصاري ، وعلى الهلالى ، وغير هم كثير (4).
    وإذا ما عدنا إلى واقع أهل البيت عليهم السّلام نجد النصّ قد توفَّر على إمامتهم بكلا طريقيه : النص المستطيل الشامل ، وتعيين السابق للاحق ، ومن سَبَر الواقع التاريخي لسلوكهم علم يقيناً بمنهم ادّعوا لأنفسهم
1 ـ اُصول الكافي 1 : 532 / 9 باب 126 ، وإكمال الدين 1 : 313 / 4 باب 28 ، وينابيع المودة 3 : 170 باب 94.
2 ـ ينابيع المودة 3 : 162 باب 94 و 2 : 83 المودة العاشرة ( في عدد الأئمة ، وإنّ المهدي منهم عليهم السّلام ).
3 ـ أُصول الكافي 1 : 525 / 1 باب 126.
4 ـ اُنظر : البيان في أخبار صاحب الزمان / الكنجي الشافعي : 501 ـ 502 ، والفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : 295 ـ 296 فصل 120 ، وينابيع المودة / القندوزي الحنفي 3 : 149 باب 94 ، وفي كفاية الأثر للخزاز جمع غفير من الصحابة الذين وَعوا هذه الحقيقة ورووها لمن بعدهم.


(50)
الإمامة في عرض السلطة الزمنية ، واتّخذوا من أنفسهم كما اتّخذهم الملايين من أتباعهم أئمَّةً وقادةً للمعأرضة السلمية للحكم القائم في زمانهم ، مع إرشاد كلِ إمام أتباعه على مَنْ يقوم بأمر الإمامة من بعده ، وعلى هذا جرت سيرتهم ، فكانوا عرضة للمراقبة والسجون والاستشهاد بالسم تارة ، وفي سوح الجهاد تارة اُُخرى وعلى أيدي القائمين بالحكم أنفسهم (1).
    ثم لو فرض من أحدهم لم يعيّن لأتباعه مَنْ يقوم بأمر الإمامة من بعده ، مع فرض توقّف النصّ عليه ، فإنّ معنى ذلك بقاء ذلك الإمام خالداً مع القرآن في كل عصر وجيل ؛ لمن دلالة « لن يفترقا حتى يردا علىَّ الحوض » على استمرار وجود امام من العترة في كل عصر كإستمرار وجود القرآن الكريم ظاهرة واضحة ، ولهذا ذهب ابن حجر الى القول : « وفي احاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به الى يوم القايمة ، كما أن الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض ، ويشهد لذلك الخبر : « في كل خَلَفٍ من أمتي عدول مِنْ أهل بيتي » (2).

رابعاًً ـ تأكيد الإمام الصادق عليه السّلام على حديث الثقلين :
    لم يتولّ الإمام الصادق عليه السّلام مهمّة الدفاع عن حديث الثقلين بنسبته إلى
1 ـ راجع : الأصول العامة للفقه المقارن : 118.
2 ـ الصواعق المحرقة : 149.


(51)
رسول الله صلّى الله عليه وآله فحسب ، بل أكد على صلته المباشرة بالحديث باعتباره واحداً من أهل البيت ، واعتبره نصّاً في خلافتهم عليه السّلام ، كما بيّن صلة هذا الحديث بمعرفة المؤمنين وتمييزهم عن غيرهم ، ومنه أمر صريح بوجوب اقتداء الأمة بالمعنيين به ، وبيان من هم المعنيون بالحديث الشريف ، كما سيأتي.
    1 ـ عن عبد الحميد بن أبي الديلم ، عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديث طويل ، ذكر فيه الإمام الصادق عليه السّلام ما يدلّّ على خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله مباشرة ، من القرآن والسنة ، وكان من جملة الأحاديث التي بيّنها عليه السّلام في مقام بيان النصّ هو حديث الثقلين الشريف (1).
    2 ـ وعن ذريح المحاربي ، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ( إنّي قد تركت فيكم الثقلين : كتاب الله ، وأهل بيتي ). فنحن أهل بيته صلّى الله عليه وآله » (2).
    3 ـ وسأل أبو بصير الإمام الصادق عن أهل البيت عليه السّلام قائلاًً : « ومن أهل بيته ؟ قال عليه السّلام : الأئمة الأوصياء » .
    ثم سأله قائلاًً : « من أمته صلّى الله عليه وآله ؟ قال عليه السّلام : « المؤمنون الذين صدّقوا بما جاء من عند الله ، المتمسّكون بالثقلين. اللذين أمروا بالتمسّك بهما : كتاب الله ، وعترته أهل بيته ، اللذَيْنِ أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم
1 ـ اُصول الكافي 1 : 293 / 3 باب الإشارة والنصّ على أمير المؤمنين عليه السّلام.
2 ـ بصائر الدرجات 1 : 414 / 4 باب 17.


(52)
تطهيرا. وهم الخليفتان على الأمة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله » (1).
    4 ـ وعن مسعدة بن صدقة ، قال : قال أبو عبد الله صلّى الله عليه وآله : « إنّ الله جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن ، وقطب جميع الكتب ، عليها يستدير محكم القرآن ، وبها نوّهت الكتب ، ويستبين الإيمان. وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يقتدى بالقرآن وآل محمد ، وذلك حيث قال صلّى الله عليه وآله في آخر خطبة خطبها : إنّي تارك فيكم الثقلين : الثقل الأكبر ، والثقل الأصغر. فأما الأكبر فكتاب ربّي ، وأما الأصغر فعترتي اهل بيتي ، فاحفظوني فيهما ، فلن تضلوا ما تمسّكتم بهما » (2).
    5 ـ وعن عبدالرحمن بن أبي نجران ، عن أبي عبد الله عليه السّلام في حديث طويل جاء فيه : « ... ومن أراد الله تعالى به الخير ، جعله من المصدّقين المسلّمين للأئمة الهادين بما منحهم الله تعالى من كرامته ، وخصّهم به من خيرته ، وحباهم به من خلافته على جميع بريّته دون غيرهم من خلقه ؛ إذ جعل طاعتهم طاعته ، يقول عزّوجلّ : ( اطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولى الأمر منكم ) (3) ، وقوله : ( من يطع الرّسول فقد أطاع الله ) (4). فندب الرسول صلّى الله عليه وآله الخلق إلى الأئمة من ذريته ، الذين أمرهم الله تعالى بطاعتهم ، ودلهم عليهم ، وأرشدهم إليهم ، بقوله عليه السّلام : إنّي
1 ـ روضة الواعظين / الفتال النيسابوري : 294 مجلس من مناقب آل محمد صلّى الله عليه وآله .
2 ـ تفسير العياشي 1 : 5 / 9 في فضل القرآن الكريم.
3 ـ سورة النساء : 4 / 59.
4 ـ سورة النساء : 4 / 80.


(53)
مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، حبل ممدود بينكم وبين الله ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا ) (1).
    ومن الواضح من عناية إمامنا الصادق عليه السّلام بحديث الثقلين ، وبيان أغراضه ، وتحديد المعنيّين به ، وهم الأئمة الاثنا عشر ، ومنهم أوصياء الرسول صلّى الله عليه وآله وخلفاؤه ، وأولهم أمير المؤمنين عليه السّلام وآخرهم المهدي عليه السّلام ، وأنهم مطهرون ، وطاعتهم مفروضة ، ومرجعيتهم ثابتة ، كل ذلك لم ينطلق من فراغ ، وإنما جاء كرد فعل معاكس للتيارات الفكرية والمذهبية المختلفة التي أوجدها النظام السياسي المضاد ، بغية تمكنها من جرف الحقيقة وتعميتها ، ويكفي أنها ـ على صعيد حديث الثقلين ـ قد وسّعت دائرة ( اهل البيت ) لتشمل بني العباس وغيرهم ممن ليس لهم في هذا الأمر نصيب.
    ولهذا اضطر الإمام الصادق عليه السّلام إلى تأكيد اختصاصهم بهذا الحديث الدالّ على عصمتهم ومرجعيتهم عليه السّلام بكل قوة.

خامساًً ـ دلّالة حديث الثقلين :
    دلّّ حديث الثقلين الشريف على أمور كثيرة ، سنشير إلى أهمها بالنقاط الآتية :
    1 ـ إنه دلّ على أن أهل البيت عليهم السّلام أفضل الأمة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله قاطبة ؛ لأنهم قُرِنوا بالكتاب العزيز ، فكان فضلهم على سائر الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله فضلهم القرآن الكريم على سائر الكتب.
1 ـ كتاب الغيبة / النعماني 1 : 54 / 3 باب ما جاء في الإمامة.

(54)
     2 ـ إنّهم عليهم السّلام أنفس شيء تركه رسول الله صلّى الله عليه وآله مع القرآن ، كما يفهم من وصفهما بالثقلين ، والثقل في اللغة هو الشيء النفيس الخطير.
    3 ـ دلّ الحديث على إمامتهم وخلافتهم ووجوب تسليم الحكم وإدارة شؤون الدولة إليهم بعد الرسول صلّى الله عليه وآله مباشرة ؛ لأن وظيفة الحاكم الأعلى في الدولة الإسلامية في المنظور القرآني والنبوي من يقود الرعية إلى شاطيء الأمان لا أن يضلها ويحرفها عن دين الله وشرعه القويم أما بتقصير أو قصور ، ويكاد لفظ الحديث من يكون صريحا بهذا ؛ لان معنى نجاة الرعية في الدولة الإسلامية أن لا تضل عن الطريق المستقيم ، وقد حصر الحديث النجاة من الضلالة بالتمسّك بالثقلين : كتاب الله وعترته أهل بيته صلّى الله عليه وآله .
    4 ـ دلّ أيضاًً على أن مقولة ( حسبنا كتاب الله ) مقولة شيطانية ، لا يراد بها إلاّ إضلال الأمة وهلاكها ، لمن الحديث حصر النجاة بالتمسّك بالثقلين ( كتاب الله والعترة ). وأين هذا من تلك المقولة ؟
    5 ـ دلّ على أن من تمسّك بغير هما يكون من الهالكين ولابدّ ، ومن باب أولى أن يكون ذلك الغير ( المتمسَّك به ) من الهالكين ، لأنه سيكون من أئمة الضلال ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون خليفة أو حاكماً أو قاضياً أو رئيساً أو أميراً أو سلطان ؛ إذ خدع الناس بأخذ معالم دينهم منه ، فتمسّكوا به لا بالثقلين.
    وقد صرح محمود شكري الآلوسي بهذا ، فقال عمن خالفهما وتمسّك بغيرهما : ( فهو ضالّ ، ومذهبه باطل ، وفاسد لايعبأبه ، ومن جحد بهما فقد


(55)
غوى ، ووقع في مهأوي الردى ) (1).
    6 ـ دلّ على مرجعية أهل البيت عليهم السّلام العلميّة ، وأنهم أعلم الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله بما في الكتاب والسنة المطهرة ، إذ لا يعقل مطلقاً أن يكونوا أمانا للأُمة من الضلالة في حال تمسّكها بهم وهناك من هو أعلم منهم بالكتاب والسنة ، ولو وُجِد فرضا لعدّه الرسول صلّى الله عليه وآله بمكان أهل البيت عليه السّلام أو لجعله ثقلاً ثالثاًً مع الكتاب العزيز والعترة الطاهرة ، وأما أن يتركه ـ على تقدير وجوده ـ فهو محال. الأمر الذي يدلُّ على عدمه ، ويؤيّده من الله عزّوجلّ لم يُذْهِب الرجس عن أحدٍ من الصحابة ويطهّره تطهيراً وإنّما انحصر ذلك بأهل البيت عليهم السّلام دون غير هم.
    7 ـ دلّ الحديث على وجوب الآخذ منهم مباشرة أو بالواسطة ، وعلى محبتهم وتوقيرهم ، وطاعتهم المطلقة وعدم الرد عليهم في شيءٍ البتة لأنهم عليهم السّلام مع القرآن صنوان لا يفترقان ، كل منهما يشهد للآخر ، فيكون الراد عليهم كالجاحد بكتاب الله ، وكالراد على الله تعالى ورسوله.
    8 ـ دلّ الحديث على حجية سنتهم عليهم السّلام ، وان سنة كل واحد منهم عليه السّلام هي سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وأن حديثهم حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله سواء رُفِع منهم إلى النبي صلّى الله عليه وآله أو لم يُرفع ، ومن الحكم على حديثهم عليهم السّلام بالإرسال لا يكون إلاّ من جاهل بحديث الثقلين أو من معاند متعصب أو ناصب.
1 ـ مختصر التحفة الاثني عشرية / الآلوسي : 52.

(56)
    9 ـ دلّ الحديث الشريف على عصمة أهل البيت عليهم السّلام من جهتين :
    الاُولى : أنهم عليهم السّلام مع القرآن والقرآن معهم لا يفترقان عمر الدنيا ، فعصمتهم كعصمة الكتاب من هذه الجهة.
    الثانية : أن من لا يدلّ على ضلالة أبداً ولو مرّة واحدة في حياته عن سهو أو اشتباه لا يكون إلاّ معصوماً ، وقد صرّح الحديث بأن من يتمسك بهما لا يضلّ أبداً إلى يوم القيامة.
    جدير بالذكر من الإمام الصادق عليه السّلام قد صرّح بعصمة الأنبياء والأوصياء عليهم السّلام جميعاًًً فقال : « الأنبياء وأوصيائهم لا ذنوب لهم ؛ لأنهم معصومون مطهرون » (1).
    وقال عليه السّلام « عشر خصال في صفات الإمام » ثم عدّ عليه السّلام العصمة في أول تلك الخصال (2).
    وقد مرّ عنه عليه السّلام ما يشير إلى عصمتهم ومرجعيتهم عليهم السّلام باُسلوب المزاوجة بين الآيات الدالة على العصمة كآية التطهير ، والطاعة كآية أولي الأمر من جهة ، وبين حديث الثقلين من جهة اُخرى ، ليلتفت السامع والمتلقي إلى وحده الموضوع والهدف والنتيجة.
1 ـ الخصال / الشيخ الصدوق 2 : 608 / 9.
2 ـ الخصال 2 : 428 / 5.


(57)
    وهذه القاعدة تكشف للعيان بأن الثقل الذي أوصى به الرسول صلّى الله عليه وآله مع القرآن ليكونا للمتمسك بهما عاصما من الضلالة ، إنما هو الثقل المتمثّل بهذا العدد من الأئمة لا غير ، وأنه ليس للأُمة أن تزيد عليهم أوصياءً ولا تنقص منهم واحداً ، وهذه القاعدة مستفادة من الحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقد أخرج البخاري بسنده عن جابر بن سمرة قال : « سمعت النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم يقول : يكون اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنّه قال : كلّهم من قريش » (1).
    وفي صحيح مسلم : « ولا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش » (2).
    وفي مسند أحمد بسنده ، عن مسروق قال : « كنّا جلوساً عند عبد الله ابن مسعود وهو يقرأ القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبدالرحمن ! هل سألتم رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم كَمْ يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال
1 ـ صحيح البخاري 4 : 164 كتاب الأحكام ، باب الاستخلاف ، وأخرجه الصدوق ، عن جابر بن سمرة أيضاًً في إكمال الدين 1 : 272 / 19 ، والخصال 2 : 469 و 475.
2 ـ صحيح مسلم 2 : 119 ـ كتاب الأمارة ، باب الناس تبع لقريش ، أخرجه من تسعة طرق.


(58)
عبد الله : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ، ثم قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] ، فقال : « اثني عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل » (1).
    وقد جاء في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال : « سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله حين حضرته وفاته ، فقلت : يا رسول الله ! إذا كان ما نعوذ بالله منه ، فإلى من ؟ فأشار صلّى الله عليه وآله إلى علي عليه السّلام فقال : إلى هذا ، فإنه مع الحق ، والحق معه ، ثم يكون من بعده أحد عشر أوصياء ، مفترضة طاعتهم كطاعته » (2).
    وعن ابن عباس أيضاًً ، قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : « .. معاشر الناس من أراد أن يتولّى الله ورسوله فليقتد بعلي بن أبي طالب بعدي ، والأئمة من ذريتي ، فإنهم خزّان علمي. فقام جابر بن عبد الله الأنصاري ، فقال : يا رسول الله ! وما عِدّة الأئمة ؟ فقال صلّى الله عليه وآله : ياجابر سألتني ـ رحمك الله عن الإسلام باجمعه. عِدّتهم عِدة الشهور ، وهي عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض ، وعِدّتهم عِدّة العيون التي انفجرت لموسى بن عمران عليه السّلام حين ضرب بعصاه الحجر فانفجرت
1 ـ مسند أحمد 5 : 90 و 93 و 97 و 100 و 106 و 107 ، وأخرجه الصدوق ، عن ابن مسعود في إكمال الدين 1 : 270 / 16.
2 ـ إعلام الورى 2 : 163 ـ 164 الركن الرابع. أخرجه عن الدوريستي ، عن أبيه ، عن الصدوق ، عن ماجيلويه ، عن عمه ، عن البرقي ، عن أبيه ، عن خلف بن حماد ، عن الأعمش ، عن عباية بن ربعي ، عن ابن عباس ، وهؤلاء كلهم من مشاهير الرواة ولم يتهم أحدهم بكذب وكلهم ما بين ثقة مشهور ، أو حسن معتمد.


(59)
أنه اثنتا عشرة عينا ، وعدّتهم عدّة نقباء بني إسرائيل ( وبعثنا منهمْ اثني عَشَرَ نقيبا ) (1) فالأئمة يا جابر اثنا عشر أولهم : علي بن أبي طالب ، وآخرهم : القائم المهدي صلوات الله عليهم » (2).
    وقد جاء إمامنا الإمام الصادق عليه السّلام ليؤكّد هذه القاعدة بكل قوة :
    1 ـ فعن عبد العزيز القراطيسي قال : قال أبو عبد الله عليه السّلام : « الأئمة بعد نبينا صلّى الله عليه وآله اثنا عشر نجباء مفهمون ، من نقّص منهم واحداً ، أو زاد فيهم واحداً ، خرج من دين الله ، ولم يكن من ولايتنا على شيء » (3)
    2 ـ وفي الصحيح عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه السّلام ، عن آبائه ، عن الحسن السبط عليهم السّلام قال : « سألت جدي رسول الله صلّى الله عليه وآله عن الأئمة بعده فقال : الأئمة بعدي بعدد نقباء بني إسرائيل ، اثنا عشر ، أعطاهم الله علمي وفهمي ، وأنت منهم ياحسن » (4).
    3 ـ وعن إبراهيم بن مهزم ، عن أبيه ، عن الإمام الصادق ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليهم السّلام ، قال : « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : الأئمة اثنا عشر من أهل بيتي أعطاهم الله فهمي وعلمي وحكمي ، وخَلَقهم من طينتي ، فويل
1 ـ سورة المائدة : 5 / 12.
2 ـ مائة منقبة / ابن شاذان : 71 المنقبة رقم / 41.
3 ـ الاختصاص / الشيخ المفيد : 233.
4 ـ اثبات الرجعة / الفضل بن شاذان ، كما في اثبات الهداة / الحر العاملي 3 : 93 ـ 94 / 809 باب 9 فصل / 60.


(60)
للمتكبرين عليهم بعدي ، القاطعين فيهم صلتي .. الحديث » (1).
    4 ـ وعن سماعة بن مهران قال : « كنتُ أنا وأبو بصير ، ومحمد بن عمران ـ مولى أبي جعفر عليه السّلام ـ في منزل بمكة ، فقال محمد بن عمران : سمعتُ أبا عبد الله عليه السّلام يقول : نحن اثنا عشر مهدياًً. فقال له أبو بصير : تالله ، لقد سمعتُ ذلك من أبي عبد الله عليه السّلام ؟ فحلف مرَّة أو مرَّتين أنّه سمع ذلك منه ، فقال أبو بصير : لكنّي سمعته من أبي جعفر عليه السّلام » (2).
    ويستفاد من مجمل هذه الأحاديث أمور ، وهي :
    الأول : إنّ عدد الخلفاء أو الأمراء أو الأئمة لا يتجأوز الاثني عشر وكلهم من قريش بلا خلاف بين الفريقين. وهذا العدد منطبق مع ما تعتقده الشيعة الإمامية بعدد الأئمة ، وهم كلهم من قريش.
    وأما التعبير بـ ( الأمراء أو الخلفاء ) فهو وإن لم ينطبق في الظاهر على مقولة الإمامية إلاّ من المقصود بذلك ليس الإمرة القسرية أو الاستخلاف بالقوة وإنّما المراد بذلك هو من يستمدّ سلطته من الشارع المقدّس ، ولا ينافي ذهاب السطلة عن أهل البيت عليهم السّلام في واقعها الخارجي ؛ لتسلّط الآخرين عليهم . وفي كلام النوربشتي ما يشير إلى هذه الحقيقة ، قال : « السبيل في هذا الحديث وما يتعقّبه في هذا المعنى أنه يُحَمل على المقسطين
1 ـ إكمال الدين 1 : 281 / 33 باب 24 ، وعيون أخبار الرضا عليه السّلام 1 : 66 / 32 باب النصوص على الرضا عليه السّلام بالأئمة الاثني عشر عليهم السّلام.
2 ـ أصول الكافي1 : 534 ـ 535 / 20 باب 126 ، وإكمال الدين 2 : 335 / 6 وذيل الحديث نفسه أيضاًً.
غيبة الإمام المهدي ::: فهرس