غيبة الإمام المهدي ::: 76 ـ 90
(76)
النبيّ صلّى الله عليه وآله إنه قال : « من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » .
    ثم قال : وهذا صريح بأن الجهل بالإمام يخرج صاحبه عن الإسلام » (1).
    وقال قدّس سرّه في الرسالة الأولى في الغيبة : « سأل سائل فقال : أخبروني عما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنه قال : ( من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ). هل هو ثابت صحيح ؟ أم هو معتلّ بغمّ ؟
    ( فأجاب الشيخ المفيد قائلاً ) : بل هو خبر صحيح يشهد له أجماع أهل الآثار ، ويقوي معناه صريح القرآن حيث يقول جلّ اسمه : ( يوم ندعوا كل اناس بامامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلاً ) (2) ، وقوله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) (3) ، وأي كثيرة من القرآن » (4).
    وفي الصحيح عن الإمام الصادق عليه السّلام ما يوضح أهمية هذه القاعدة وصلتها بمقام أهل البيت عليه السّلام.
    فقد روى ثقة الإسلام الكليني رضي الله عنه ، عن على بن إبراهيم الفقيه المفسر
1 ـ الغفصاح في الإمامة / الشيخ المفيد : 28 ـ 29.
2 ـ سورة الإسراء / 41.
3 ـ سورة النساء : 4 / 41.
4 ـ الرسالة الأولى في الغيبة / الشيخ المفيد : 11 ـ 12 مطبوعة ضمن الجزء السابع من سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد.


(77)
الثبت الثّقة ، عن محمد بن عيسى الفقيه الحليل الثبت الثقة ، عن يونس ابن عبدالرحمن الفقيه العظيم الحليل الثبت الثقة ، عن حماد بن عثمان الثبت الثقة ، عن عيسى بن السّري الثبت الثقة قال : « قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : حدثني عمّا بنى عليه دعائم الإسلام ، إذا منا أخذت بها زُكّي عملى ولم يضرني جهل ما جهلت بعده ، فقال عليه السّلام : شهادة من لا إله إلاّ الله ، وأن محمداً رسول الله صلّى الله عليه وآله « والإقرار بما جاء به من عند الله ، وحقّ في أموال من الزكاة ، والولاية التي أمر الله عزّوجلّ بها ، ولاية آل محمد صلّى الله عليه وآله ، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية. قال الله عزّوجلّ : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم ) (1) فكان علي عليه السّلام ، ثم صار من بعده حسن ، ثم من بعده حسين ، ثم من بعده علي ابن الحسين ، ثم من بعده محمد بن علي ، ثم هكذا يكون الامر. إنّ الأرض لا تصلح إلاّ بإمام ، ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية ، وأحوج ما يكون أحدكم إلى معرفته إذا بلغت نفسه هاهنا ـ قال : وأهوى بيده إلى صدره ـ يقول حينئذٍ : لقد كنت على أمرٍ حسن » (2).
    وقد روى هذه الرواية صفوان بن يحيى الثقة عن عيسى بن السري أيضاًًً (3) ، الأمر الذي يعزز من صدقها ويؤكّد سماعها من الإمام الصادق عليه السّلام
1 ـ سورة النساء : 4 / 59.
2 ـ اصول الكافي 2 : 21 / 9 باب دعائم الإسلام.
3 ـ رجال الكشي : 424 / 799 في ترجمة أبي اليسع عيسى بن السري.


(78)
حقاً.
    ونظير الرواية المذكورة في الصحّة ، ما أخرجه ثقة الإسلام الكليني بسند صحيح ، عن بشير الكناسي ، قال : « سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول : وصلتم وقطع الناس ، وأحببتم وأبغض الناس ، وعرفتم ومنكر الناس وهو الحق ، إن الله اتّخذ محمداً صلّى الله عليه وآله عبداً قبل من يتخذه نبياً ، وإن علياً عليه السّلام كان عبداً ناصحاً لله عزّوجلّّ فنصحه ، وأحبّ الله عزّوجلّ فأحبه. إن حقّنا في كتاب الله بيّن ، لنا صفو المال ، ولنا الانفال ، وإنا قوم فرض الله عزّوجلّ طاعتنا ، وإنكم تأتمّون بمن لا يُعذر الناس بجهالته. وقال رسول الله صلّى الله عليه وأله : ( من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية ) ، عليكم بالطاعة .. » (1).
    هذا ، وأما من ادّعى من المراد بالإمام الذي من لا يعرفه سيموت ميتة جاهلية هو السطان أو الحاكم أو الملك ونحو ذلك وإن كان فاسقاً ظالماً كما هو حال سلاطين بني امية وبني العباس ، أو طاغية مستبداً كما هو عليه واقعنا المعاصر ، فعليه من يثبت بالدليل من معرفة هذه النماذج القذرة من الدين أولاًً ، ثم يبيّن للعقلاء الثمرة المترتبة على وجوب معرفة الظالم الفاسق الطاغية المستبد بحيث يكون من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية.
    ومن عظيم ما يُروى فيمن ادّعى ذلك : الصحيح الوارد عن
1 ـ روضة الكافي 8 : 128 ـ 129 / 123.

(79)
ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قال : « ثلاثة لا يكلمهم لله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب ألىم : من ادعى إمامة من الله ليست له ، ومن جحد أوصياءً من الله ، ومن زعم من لهما في الإسلام نصيباً » (1).
    إن دلالة ما مرّ على ضرورة معرفة الإمام الحق الذي أمر الله تعالى بطاعته ، لا تتمّ في زماننا هذا إلاّ مع القول بولادة الإمام المهدي الحجة ابن الحسن العسكري عليه السّلام وغيبته واعتقاد ظهوره في آخر الزمان ليملأ الدنيا قسطاًً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماًً وجوراًً.
    ولا يخفى من المراد من هذه القاعدة ليس مجرد معرفة الإمام باسمه ونسبه مثلاً ، وإنما المطلوب إلى جانب المعرفة تلك : طاعة الإمام ، وعدم مخالفته بشيء ، والردّ إليه ، والتسليم له.
    وفي الصحيح الثابت ما قاله إمامنا الصادق عليه السّلام لزيد الشحام : « أتدري بما أمروا ؟ أُمروا بمعرفتنا ، والردّ إلينا ، والتسليم لنا » (2).
    وفي الصحيح عن أبي بصير قال : « قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : أرأيت الرادَّ عليَّ هذا الأمر كالرادِّ عليكم ؟ فقال عليه السّلام : يا أبا محمد ! من رد عليك هذا الأمر فهو كالرادّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله » (3).
1 ـ اُصول الكافي 1 : 373 / 4 باب من ادّعى الإمامة وليس لها بأهل.
2 ـ بصائر الدرجات : 525 ـ 526 / 32 باب ، 20 ( من الجزء العاشر ).
3 ـ المحاسن : 185 / 194.


(80)
    وكل هذا يعزّز ما ذكرناه سابقا في حكم مَن أنكر الإمام المهدي ابن الإمام الحسن العسكري عليهما السّلام.


(81)
    أولاًًً ـ منهج الإمام الصادق عليه السّلام في تشخيص هوية الإمام الغائب عليه السّلام :
    يرجع الفضل في معرفتنا بذلك المنهج المحكم إلى محدّثي الإمامية الذين عاشوا في الغيبة الصغرى ( 260 ـ 329 هـ ) أو بعدها ، كالبرقي ( ت / 274 وقيل سنة / 280 هـ ) ، والصفّار ( ت ، 290 هـ ) ، وثقة الإسلام الكليني ( ت ، 329 هـ ) ، والصدوق الأول ( ت ، 329 هـ ) ، و النعماني ( ت / بعد سنة 342 هـ ) ، و الشيخ الصدوق ( ت / 460 هـ ) ، والشيخ المفيد ( ت / 413 هـ ) ، والشيخ الطوسي ( ت / 460 هـ ) ، وغيرهم من أعلام الإمامية المتقدمين الذين استفرغوا الوسع في جمع الحديث الشريف وتحقيقه وتدوينه ، بعتمادهم على مصّنفات الشيعة في القرون الثلاثة الأولى ، لا سيمّا الكتب المعروفة بالأصول الأربعمّائة ، وغيرها من المصنّفات المعتمدة المؤلّفة في عصور الأئمة التي شاع اعتمادها ، حتى صار مرجعهم إليها ومعوّلهم عليها ، واودعوا ما جمعوا منها في مؤلّفاتهم المعروفة ، مع حسن تبويبها


(82)
وتصنيفها ، الأمر الذي ساعد على استخراج المادّة المطلوبة منها بيسر وسهولة ، هذا فضلاًًً عن الكتب الأخرى المصنّفة في خصوص الإمام المهدي عليه السّلام وغيبته. ولا شكّ بمن الرجوع إلى تلك الكتب ـ بصنفيها ـ سوف يكشف بالتأكيد عن غيبة الإمام المهدي عند جدّه الإمام الصادق عليهما السّلام بكل وضوح ، ولا يضرّ وجود الإجمال في بعضها مع وجود التفصيل ، كما لا يقدح الإبهام في دلالاتها مع توفّر البسط والتوضيح ؛ إذ لم يقتصر إمامنا الصادق عليه السّلام على إخبار شيعته بمجرّد غيبة إمام من أهل البيت عليهم السّلام حتى يمكن القول بعدم دلالة ما أخبر به على غياب شخص أعين. وإنما أخبرهم كذلك بشخص من سيغيب ، وحدّد رقمه من بين الأئمة الاثني عشر ، وذكر اسمه وكنيته ، وسلّط الضوء على كامل هويّته ، وما يقوله المبطلون في ولادته ، وطول امد غيبته ، وما يجب على المؤمنين من انتظار فرجه ، مع تبيين واسع لعلامات ظهوره ، ومكان الظهور ، وعدد منصاره ، ومدّة حكمه بعد ظهوره ، وقوّة دولته ، وسعة العدل فيها ، والرخاء العميم في جنباتها ، وسيطرة دين الإسلام في ظلالها على سائر الأديان كلها في مشارق الأرض ومغاربها ، بما لا يبقى مع تلك الأخبار أدنى مجال للقول بمهدي مجهول يخلقه الله تعالى في آخر الزمان.
    وهكذا حكم الإمام الصادق عليه السّلام من خلال ما وصلنا من أحاديث الشريفة بزيف دعاوى المهدوية السابقة على عصره ، والمعاصرة له ، واللاحقه به ، وبيّن كذبها جميعاًً ؛ كمهدوية محمد بن الحنفية ( ت / 73 هـ ، وقيل غيرها ) ومهدوية عمر بن عبدالعزيز الأموي ( ت / 101 هـ ) ، ومهدوية محمد بن عبد الله بن الحسن الذي قتله المنصور الدوانيقي سنة /


(83)
145 هـ ، ومهدوية الملقّب زوراً بالمهدي العباسي ( ت / 169 هـ ).
    ولم يكتف الإمام الصادق عليه السّلام بهذا كله ، وإنّما حاول تنبيه الشيعة إلى ما سيحصل بعده من قول الناووسيّة بمهدويتّه عليه السّلام ، وقول الواقفية بمهدوية ابنه الإمام الكاظم بعد وفاته عليه السّلام.
    ومن هنا نفى الإمام الصادق عليه السّلام المهدوية عن نفسه ، وعن ولده الإمام الكاظم عليه السّلام بوضوح وصراحة تامّين ؛ لكي لا يغتر أحد بمقولة الناووسية ، ولا يعبأ بمقولة الواقفية ، ولا يصغي لغيرهما كالفطحية وأمثالها ، ممّا نتج عن ذلك التنبيه الواعي المدورس من تبخّرت تلك المزاعم الباطلة وذهبت أدراج الرياح ، واضمحلّت فرقها الفاسدة بعد ظهورها على مسرح الأحداث ، وزالت بأسرها عن صفحة الوجود كلمح في البصر ، وعاد مثلها كمثل الفقاعات التي تظهرعلى سطح الماء الساخن فجأة ثم سرعان ما تنفجر و تتلاشى ، بحيث لا ترى لها رسما ولا طللا ، وهكذا كانت تلك الفرق ! محا الله تعالى آثارها ودثر أخبارها ، حتى صارت أثرا بعد عين ، وذهبت جفاء كالزبد الذي لا يمكث في الأرض إلاّ قليلا.
    وفي مقام بيان منهج الإمام الصادق عليه السّلام في تشخيص هوية المهدي الموعود بظهوره في آخر الزمان عليه السّلام ، نقف على اسلوبين في هذا المهنج الشريف وهما :

    الأسلوب الأول ـ اسلوب التمثيل والتشبيه لتقريب الهوية :
    وخير ما يدلّ على هذا الأسلوب أحاديث الإمام الصادق عليه السّلام التي بينت أوجه الشبه بين الإمام المهدي عليه السّلام وبين بعض الأنبياء عليه السّلام ، ومن


(84)
مراجعة ما حكاه القرآن الكريم في قصصهم عليهم السّلام ، وما بيّنته الأحاديث النبويّة الشريفة في هذا المجال ؛ يعلم بأن هدف الإمام الصادق عليه السّلام في تبيان أوجه الشبه تلك إنّما هو بهدف التوعية المطلوبة وذلك على مستويين :

    المستوى الأول :
    مستوى من لم يعاصر الإمام المهدي عليه السّلام ، ويضم هذا المستوى جميع من ما توا قبل ولادته عليه السّلام من أصحاب الإمام الصادق وأصحاب ولده عليهم السّلام وصولاً إلى الإمام العسكري عليه السّلام ؛ إذ بإمكان هذه الطبقة أن تستحضر هذا الأسلوب لكي تعرف قيمة ما يظهر بزمانها من دعاوى المهدوية ، ويتأكّد لها ـ حينئذ ـ بطلان تلك الدعاوى لعدم انطباق التشبيه والتمثيل الواردين في الإمام المهدي عليه السّلام عليها.
    وما قد يقال بمن هذه الطبقة من الأصحاب لا تحتاج في الواقع إلى كل ذلك ؛ إذ يكفيها معرفة إمام زمانها فحسب ، وعلى أبعد تقدير معرفة من سيليه على أمر الإمامة ، وأما معرفة هوية من سيأتي بعد ذلك من الائمة عليه السّلام فهي غير مسؤولة عنها ولا ملزمة بها ، وأما عن دعاوى المهدوية التي عاصرتها ، فبإمكانها السؤال من إمام زمانها نفسه عن مدى مصداقيتها ، وحينئذ ستنتفي حاجتها إلى هذا الاسلوب ، خصوصاً وإن في أحاديث أهل البيت عليهم السّلام ما يدلّ على ذلك. ويكفي في هذا ما ذكره ثقة الإسلام الكليني في باب ( إنّه من عرف إمامه لم يضرّه تقدم هذا الأمر أو تأخّر ) ، حيث ضمّ سبعة أحاديث بهذا المعنى ، وهذا نموذج منها :
    1 ـ عن زرارة ، قال : « قال أبو عبد الله عليه السّلام : اعرف إمامك ، فإنّك إذا


(85)
عرفت لم يضرّك ، تقدم هذا الأمر أو تأخّر » (1).
    وعن إسماعيل بن محمد الخزاعي ، قال : « سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه السّلام وأنا أسمع ، فقال : تراني أدرك القائم عليه السّلام ؟ فقال : يا أبا بصير الست تعرف امامك ؟ فقال : اي والله وأنت هو ، وتناول يده. فقال : « والله ما تبالي يا أبا بصير ألا تكون محتبيا بسيفك في ظلال رواق القائم صلوات الله عليه » (2).
    3 ـ وعن فضيل بن يسار ، قال : « سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول : من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية ، ومن مات وهو عارف لإمامه لم يضرّه ، تقدم هذا الأمر أو تاخّر ، ومن مات وهو عارف لامامه كان كمن هو مع القائم في فسطاطه » (3).
    وكل هذا يدلّ على انتفاء حاجة الاصحاب إلى التوعية المطلوبة على المستوى الاول في تبيان اوجه الشبه بين المهدي الموعود عليه السّلام وبين الانبياء السابقين عليهم السّلام.
    فكيف تكون تلك التوعية اذن هدفاً من اهداف الإمام الصادق عليه السّلام مع انتفاء حاجة الاصحاب اليها ؟
    والجواب باختصار .. هو أن أحاديث الاكتفاء بمعرفة إمام الزمان إنما
1 ـ اصول الكافي 1 : 371 / 1 باب انه من عرف إمامه لم يضرّه ، تقدم هذا الأمر أو تأخّر.
2 ـ اصول الكافي 1 : 371 / 4 ، من الباب السابق.
3 ـ اصول الكافي 1 : 371 ـ 372 / 5 ، من الباب السابق.


(86)
جاء التأكيد عليها في مقابل استعجال بعض أصحاب الأئمة عليهم السّلام في مسألة ظهور الفرج على يد الإمام المهدي عليه السّلام ، إذ سبق إلى أذهانهم دوره الشريف في انشاء دولة آل محمد صلّى الله عليه وآله ، دولة الحق الشامل وذلك من خلال ما بشّر به النبيّ صلّى الله عليه وآله الأطهار عليهم السّلام ، والمعروف من انتظار الفرج في ظلّ الاستبداد والعنف السياسي المقيت المتواصل ، عادة ما يكون مدعاة للسام والضجر ، وقد ينتج عنه اليأس من الظهور ، والشكّ في أصل القضية ، ولهذا حاول الإمام الصادق عليه السّلام تنبيه هذه الشريحة على القاعدة القرآنية القائلة : ( يوم ندعو كلَ أناسٍ بإمامهم ) (1) وذلك من خلال أحاديث الشريفة المصرّحة بوجوب معرفة إمام الزمان الحقّ ، واذا ما أضيف هذا الى تنبيهه عليه السّلام على مسالة عدم التوقيت ، مع ضرورة البقاء في حالة تاهّب وانتظار مع بيان فضل الانتظار بانه من أنواع العبادة ، علم انّ الهدف أن وراء ذلك إنّما هو لاجل تثبيت القلوب والقضاء على عوامل الياس التي قد تنشأ نتيجة الانتظار الطويل ، وها لا يعأرض اية خطوة من خطوات كشف الطريق ، كبيان مستقبل الأمة على يد الإمام المهدي ، وتشخيص هويته عليه السّلام بالتلميح تارة وبالتصريح تارة اخرى.
    واما عن حاجتهم إلى هذا على الرغم أن معرفتهم إمام زمانهم ، فهي حاجة كل إنسان إلى معرفة ما في المستقبل ، اذ المطلوب أن لا يعيش الانسان يومه فحسب ، بل لابدّ وان تكون عنده نبوءات عن مستقبله ، والا كان فاشلاً ، ولهذا نجد في عالمنا المعاصر مؤسسات علمية وثقافية
1 ـ سورة الإسراء : 17 / 71.

(87)
كثيرة تعنى بشؤون المستقبل ، فضلاًً عن وجود مجلات علمية متخصصة بالدراسات المستقبلية.
    ومن هنا صار التنبؤ بالشيء قبل وقوعه من الأمور الاحترازية المهمّة لكلّ مجتمع ، وعلى هذا جرى أسلوب الإمام الصادق عليه السّلام في خصوص مسألة الإمام المهدي عليه السّلام ، فأخبر عنه وفصّل هويته الشريفة قبل ولادته بعشرات السنين.
    كما لا يمكن اغفال دور هذا المستوى من التوعية في حمل الأمانة ونقلها إلى الاجيال اللاحقة ، خصوصاً أجيال الغيبة الكبرى لإمام العصر والزمان عليه السّلام التي لم تشاهد الإمام ولم تره ، ولكنها آمنت به واستيقنت منفسهم وجوده ، ولولا تلك الأخبار وغيرها لشكت حتى في أخبار ولادته عليه السّلام ، نظرا لما أحاطها من سرية وتكتم كانا مقصودين من أبيه الإمام العسكري عليه السّلام مباشرة إلاّ للخاصّة فالخاصّة كوكلاء الإمام ، وأعمدة التشيّع يوم ذاك من الثقات الأجلاّء المعروفين ، ومن لابدّ من اطلاعه كالخدم والجواري ونحوهم.

    المستوى الثاني :
    مستوى من عاش حدث الولادة المباركة للإمام المهدي عليه السّلام ورآه في زمان أبيه أو في زمان غيبته الصغرى أو سمع بذلك ممن علم بالحدث أو شاهد الإمام مباشرة ، وهم جلّ الشيعة في ذلك الوقت.
    وبإمكان هذه الطبقة أن تلاحظ قوّة انطباق تلك الاخبار على الواقع التاريخي بعد وفاة الإمام العسكري عليه السّلام وحينئذ تزداد يقيناً على يقين ولن


(88)
تضعّف من بصيرتها كثرة المهرجّين والمشعوذين.
    ويدلّ على هذا الأسلوب الشريف :
    1 ـ عن أبي بصير قال : « قال أبو عبد الله عليه السّلام : إن في صاحب هذا الأمر سنناً من الأنبياء عليهم السّلام : سنة من موسى بن عمران ، وسنة من عيسى ، وسنة من يوسف ، وسنة من محمد صلوات الله عليهم. فأما سنة من موسى بن عمران ، فخائف يترقب ، وأما سنة من عيسى ، فيقال فيه ما قيل في عيسى ، وأما سنة من يوسف ، فالسِّتْر ، يجعل الله بينه وبين الخلق حجابا ، يرونه ولا يعرفونه ، وأما سنة من محمد صلّى الله عليه وآله ، فيهتدي بهداه ، ويسير بسيرته » (1).
    2 ـ وعن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قال : « في القائم عليه السّلام سنة من موسى بن عمران عليه السّلام ، فقلت : وما سنتّه من موسى بن عمران ؟ قال عليه السّلام : خفاء مولده ، وغيبته عن قومه ... » (2).
    3 ـ وفي حديث آخر عنه عليه السّلام ، إنّ في المهدي الغائب عليه السّلام : « سنةً من أربعة أنبياء : سنة من موسى خائف يترقب ، وسنة من يوسف يعرفهم وهم له منكرون ، وسنة من عيسى وما قتلوه وما صلبوه ، وسنة من محمد صلّى الله عليه وآله يقوم بالسيف » (3).
    4 ـ وفي حديث آخر عنه عليه السّلام ، إنّ فيه : « سنةً من نوح وهو طول
1 ـ إكمال الدين 2 : 350 ـ 351 / 46 باب 33.
2 ـ إكمال الدين 1 : 152 / 14 باب 6.
3 ـ دلائل الإمامة : 251.


(89)
عمره ، وظهور دولته ، وبسط يده في هلاك أعدائه ، يخرج بالسيف كما خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وسنةً من داود وهو حكمه بالإلهام » (1).
    وعن زيد الشحّام ، عن الإمام الصادق عليه السّلام في حديث طويل جاء فيه : « إن صالحاً عليه السّلام غاب عن قومه زماناً ـ إلى أن قال عليه السّلام ـ وإنّما مَثَلُ القائم عليه السّلام مَثَلُ صالح » (2).
    6 ـ وفي الصحيح عن سدير الصير في قال : « سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول : إنّ في صاحب هذا الأمر شبها من يوسف عليه السّلام قال : فقلت له : كمنك تذكر حياته أو غيبته ؟ قال : فقال لي عليه السّلام : وما ينكر من ذلك هذه الأمة أشباه الخنازير ؟ إن إخوة يوسف عليه السّلام كانوا أسباطاً أولاًًد ألانبياء ، تاجروا بيوسف وبايعوه وخاطبوه ، وهم إخوته وهو أخوهم ، فلم يعرفوه حتى قال : أنا يوسف وهذا أخي. فما تنكر هذه الأمة الملعونة أن يفعل الله عزّوجلّ بحجّته في وقت من الأوقات كما فعل بيوسف ؟ إن يوسف عليه السّلام كان إليه ملك مصر ، وكان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوما ، فلو أراد أن يعلمه لقدر على ذلك ، لقد سار يعقوب عليه السّلام وولده ـ عند البشارة ـ تسعة أيّام من بدوهم إلى مصر. فما تنكر هذه الأمة من يفعل الله جلّ وعزّ بحجّته كما فعل بيوسف ، أن يمشي في أسواقهم ويطأ بسطهم حتى يأذن الله في ذلك له كما أذن ليوسف ؟ قال : « أئنك لأنت يوسف ؟ قال : أنا يوسف » (3).
1 ـ الخرائج والجرائح 2 : 936 باب 17.
2 ـ إكمال الدين 1 : 136 ـ 137 / 6 باب 3.
3 ـ أصول الكافي 1 : 336 ـ 337 / 4 باب في الغيبة ، وإكمال الدين 2 : 341 / 21 باب 33.


(90)
    وفيه إشارة واضحة إلى غيبة الإمام عليه السّلام ، وما فعله جعفر الكذّاب ـ وهو عمّ الإمام المهدي عليه السّلام ـ شبيه بما فعله أولاًًد يعقوب عليه السّلام بأخيهم يوسف !
    وفي حديث سدير هذا ما يدلّ على شيوع مفهوم غيبة الإمام المهدي بين أصحاب الإمام الصادق عليه السّلام بفضل ما وصل إليهم من أحاديث آبائه الأطهار عليهم السّلام ، فضلاًً عمّا قام به الإمام الصادق عليه السّلام من ايضاح كل ما يحيط بالإمام المهدي عليه السّلام تفصيلاً ، وخير ما يدلُّ على سبق مفهوم الغيبة إلى علم الأصحاب ، هو استفسار سدير الصيرفي ـ في هذا الحديث ـ من الإمام الصادق عليه السّلام بقوله : كأنّك تذكر حياته أو غيبته !
    ويدلّ عليه أيضاًً ما رواه المفضل بن عمر ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السّلام وعنده في البيت اُناس ، فظننت أنه إنّما اراد بذلك غيري ، فقال : « أما والله ! ليغيبنّ عنكم صاحب هذا الأمر ... الحديث » (1).
    فقول المفضّل : ( فظننت منه إنّما أراد بذلك غيري ) يدلّ بوضوح على علم المفضّل بالغيبة ، لسماعه أخبارها قبل زمان صدور هذا الحديث.
    7 ـ وعن عبدالرحمن بن الحجاج عن الإمام الصادق ، عن آبائه عليهم السّلام ، عن الإمام الحسين عليه السّلام قال : « في التاسع من ولدي سنة من يوسف ، وسنة من موسى بن عمران عليهما السّلام ، وهو قائمنا أهل البيت ، يصلح الله تبارك وتعالى أمره في ليلة واحدة » (2).
1 ـ اصول الكافي 1 : 338 / 11 ، باب في الغيبة.
2 ـ إكمال الدين 1 : 316 ـ 317 / 1 باب 30.
غيبة الإمام المهدي ::: فهرس