الحلقة الثانية
الفصل الثاني:
ملاحظات على مقال الدكتور البغدادي
في رده على الشهيد الصدر (رحمه الله)
البغدادي يرد على الشهيد الصدر!
نشر احمد الكاتب في نشرته الشورى العدد الثالث
مقطعا من كلام الشهيد الصدر اقتطعه من كتابه
(بحث حول الولاية) الذي يبرهن فيه على بطلان
الشورى في المجال الأول والثاني الآنفي الذكر
ويثبت فيه النص على علي (عليه السلام) وبقية
أهل البيت(عليهم السلام). وقد صدَّر صاحب
النشرة الكلام المقتطع بمانشيت عريض (الصدر:
الصحابة لم يعرفوا نظام الشورى) وقدم له مقدمة
طلب فيها من القراء والمفكرين المسلمين ان
يولوها كبير اهتمامهم لأنها رؤية لا تزال حية
في أذهان الكثير من المثقفين وانه يستقبل أية
مناقشة لها ثم نشر في العدد السادس مقالا يحمل
عنوان الشورى منهج حياة المسلمين) وبتوقيع
الدكتور عبد الله البغدادى
يرد فيه على الشهيد الصدر وقد جاء الرد في
محورين هما:
المحور الأول: يثبت فيه البغدادي ان
النبي (صلى الله عليه وآله) كان يستشير أصحابه
في القضايا التنفيذية العامة ويأخذ برأيهم
فيها ثم ذكر قصة مشورة النبي أصحابه في قصة
بدر واحد وغيرها.
المحور الثاني: وينكر فيه وجود النص على
علي (عليه السلام) ويقول ان بيعة الخلفاء كانت
على أساس الشورى ودون تهديد أو قوة سلاح ومما
قاله في هذا الصدد:
(ان ما جرى في السقيفة من نقاش حصل فيه ترشيح
لأبي بكر وآخر لسعد بن عبادة، وقد تغلب الرأي
الأول، ولم يكن ذلك تمام الشورى، بل انه كان
مجرد ترشيح، والبيعة التي تمت في مسجد
النبي (صلى الله عليه وآله) والتي اجمع عليها
جمهور المهاجرين والأنصار كانت لأبي بكر وكان
ذلك هو الاستفتاء (للجيل الطليعي من الأمة
الذي يضم المهاجرين والأنصار) كما وصفه الشهيد
الصدر. ولو لم يبايع المسلمون / وقد فعلوا ذلك
طواعية دون تهديد أو قوة سلاح / لما انعقدت
بيعة أبي بكر.
وكذلك الأمر في استخلاف أبي بكر لعمر أو في
استخلاف عمر للستة، فالأمر لا يعدو ان يكون
ترشيحا خاضعا للقبول أو الرفض من الأمة التي
تدلي بصوتها في إعطاء البيعة أو رفض ذلك.
أما الاستنتاج من الشهيد الصدر بأن (الطريق
الوحيد الذي بقي منسجما مع طبيعة الأشياء،
ومعقولا على ضوء ظروف الدعوة والدعاة وسلوك
النبي هو ان يختار النبي بأمر من الله شخصا
فيعده إعدادا رساليا وقياديا لتتمثل فيه
المرجعية الفكرية والزعامة السياسية) (ولم يكن
هذا الشخص المرشح للإعداد الرسالي والقيادي
والمنصوب لتسلم الدعوة وتزعمها فكريا وسياسيا
إلا الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)).
فالرد عليه ان الغرابة بمكان ان يكون ذلك (هو
الطريق الوحيد الذي بقي منسجما مع طبيعة
الأشياء) ومع ذلك لم يجد أغلبية تؤيده من
(الجيل الطليعي للامة) بل لم يذكر أحد ممن حضر
السقيفة أو شهد البيعة في المسجد النبوي نصا
أو وصية من رسول الله (صلى الله عليه وآله)
بذلك.
والأغرب من ذلك هو انه لم يرد نص صريح في
القرآن والسنة يشير إلى هذا الاختيار النبوي
الذي هو (بأمر من الله)!
والأغرب من ذلك كله.. ان الإمام علي (عليه
السلام) لم يحتج لنفسه - فيما ثبت عنه - بأي
قول يشير إلى هذا (التعيين) بل كان مما حاجج
به الإمام علي (عليه السلام) معاوية الذي
نازعه سلطانه الشرعي قوله: (ان القوم الذين
بايعوني هم القوم الذين بايعوا أبا
بكروعمر..)) انتهى كلامه.
تعليقنا على الرد في محوره الأول هو:
ان الشهيد الصدر (رحمهم الله) لم يرفض الشورى
في مجال ممارسة الحاكم للشؤون التنفيذية
العامة ولم يرفض دورها في تشخيص المرجع في
فترة الغيبة الكبرى ودور الانتخاب في حسم حالة
تعدد المرجعيات المتكافئة المستوفية للشروط
اللازمة وقد وضَّح ذلك مفصلا في كتابيه (لمحة
فقهية تمهيدية عن دستور الجمهورية الإسلامية
في إيران) و (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء).
وان الذي كان ينفيه من الشورى في كتابه (بحث
حول الولاية) هو الشورى في مجال تعيين القيادة
الفكرية والسياسية التي تخلف النبي (صلى الله
عليه وآله) والتي تقع على امتداد الرسالة في
كل شىء إلا النبوة والأزواج كما مرَّ توضيحه.
وكان ينبغي على صاحب النشرة ان ينبه إلى ذلك
وينشر مقاطع من كلام الشهيد الصدر توضح رأيه
في ذلك.
أما تعليقنا على الرد في محوره الثاني:
فسيأتي تباعا في هذه الحلقة وفي غيرها، ومن
الجدير ذكره ان إشكالاته التي أثارها ليست مما
ينفرد به بل هي إشكالات أثارها قبله كل من كتب
من علماء السنة و مثقفيهم في هذا الموضوع
وأجاب عليها الشيعة.
الحلقة الثانية
الفصل الثالث:
احتجاج علي (عليه السلام) بحديث الغدير
قال البغدادي:ان عليا (عليه السلام) لم يحتج
في ما ثبت عنه بأي قول يشير إلى النص عليه.
أقول: لقد احتج علي (عليه السلام) بحديث
الغدير وقد تواتر ذلك عنه في كتب الحديث.
نص الشبهة
قال البغدادي: (والأغرب من ذلك كله.. ان
الإمام علي (عليه السلام) لم يحتج لنفسه -
فيما ثبت عنه - بأي قول يشير إلى هذا
(التعيين)).
الرد على الشبهة
اقول:
أولا:
لقد ثبت تاريخيا ان عليا (عليه السلام) قد
احتج بحديث الغدير في اكثر من مناسبة كان
اشهرها في المصادر التاريخية والحديثية
الميسرة بين أيدينا هي مناشدته للناس في مسجد
الكوفة بعد عودته من حرب الجمل.
قال عبد الحق الدهلوي البخاري في
كتابه اللمعات في شرح المشكاة في تعليقه على
حديث الغدير:
(وهذا حديث صحيح لا مرية فيه وقد أخرجه جماعة
كالترمذي والنسائيواحمد وطرقه كثيرة جدا رواه
ستة عشر صحابيا
وفي
رواية لاحمد انه سمعه من النبي (صلى الله عليه
وآله) ثلاثون صحابيا وشهدوا به لعلي (عليه
السلام) لما نوزع أيام خلافته وكثير من
أسانيده صحاح وحسان ولا التفات لمن قدح في
صحته
ولا إلى قول بعضهم (ان زيادة اللهم وال من
والاه إلى آخره) موضوع فقد ورد ذلك من طرق صحح
الذهبي
كثيرا منها كذا قال الشيخ ابن حجر في الصواعق
المحرقة).
أقول:
روى احمد بن حنبل عن عبد الله بن عمر الجشمي
البصري (ت235) عن عبيد الله بن عمر القواريري
عن يونس بن أرقم عن يزيد بن زياد عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى (ت 83) قال شهدت عليا في
الرحبة
قال: (انشد الله رجلا سمع رسول الله وشهد يوم
غدير خم إلا قام ولا يقوم إلا من رآه فقام
اثنا عشر بدريا فقالوا نشهد انا سمعنا رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يقول يوم غدير خم
(الست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه
أمهاتهم فقالوا بلى يا رسول الله قال فمن كنت
مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من
عاداه)).
وفيه أيضا بسند آخر قال (صلى الله عليه وآله)
(واخذل من خذله).
وفيه أيضا بسنده عن أبي الطفيل عامر بن واثلة
ت100
قال:
(جمع علي (عليه السلام) الناس في الرحبة ثم
قال لهم:انشد الله كل امرئ سمع من رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يقول يوم غدير خم
ما سمع لما قام فقام ثلاثون من الناس فشهدوا.
قال أبو واثلة: فخرجت وكأن في نفسي شيئا فلقيت
زيد بن أرقم فقلت له إني سمعت عليا (عليه
السلام) يقول كذا وكذا.
قال: فما تنكر قد سمعت رسول الله يقول ذلك
له).
وقوله (فخرجت وكأن في نفسي شيئا) يبدو منه ان
أبا الطفيل استعظم النتائج المترتبة على حديث
الغدير وهي هلاك وضلالة من خالف عليا أو خذله
أو قاتله أو قدَّم نفسه عليه لذلك راح يستزيد
عن القضية اكثر.
ومن الجدير ذكره هنا ان حديث الغدير الذي
استنشده علي (عليه السلام) لم يكن يتضمن ذكر
علي (عليه السلام) فقط بل تضمن أيضا ذكر أهل
بيته، وقد روى الحاكم النيسابوري الرواية
كاملة عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال:
(خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى
انتهينا إلى غدير خم عند شجيرات خمس ودوحات
عظام فكنس الناس ما تحت الشجيرات ثم استراح
رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشية فصلى ثم
قام خطيبا فحمد الله واثنى عليه ثم قال:
(أيها الناس إني تارك فيكم أمرين
لن تضلوا ان اتبعتموهما وهما كتاب الله وأهل
بيتي عترتي ثم قال أتعلمون أني أولى الناس
بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات قالوا نعم فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كنت مولاه
فعلي مولاه...).
وفي رواية الطبراني بعد قوله عترتي (وان
اللطيف الخبير نَبَّأَني انهما لن يفترقا حتى
يردا عليَّ الحوض وسألت ذلك لهما، فلا
تَقدَّموهُما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما
فتهلكوا، ولا تعلموهم فانهم اعلم منكم).
وقد ورد حديث النبي (صلى الله عليه وآله) في
أهل بيته في مناسبات شتى ولم يكن مقتصرا
على مناسبة غدير خم.
قال ابن حجر الهيثمي: (اعلم ان لحديث التمسك
بذلك طرقا عديدة كثيرة وردت عن نيف وعشرين
صحابيا وفي بعض تلك الطرق انه قال ذلك بحجة
الوداع بعرفة
وفي أخرى انه قاله بالمدينة في مرضه وقد
امتلأت الحجرة بأصحابه وفي
أخرى انه قال ذلك بغدير خم وفي آخر انه قال
ذلك لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف).
ثانيا:
وفي ضوء حديث الثقلين وحديث الولاية كان
علي (عليه السلام) أيام حكومته يوضح للناس
حقيقة منزلته ومنزلة أهل البيت (عليهم
السلام).
فمن كلماته قوله (عليه السلام): (لا يقاس بآل
محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد
ولا يُسَوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا هم
أساس الدين وعماد اليقين إليهم يفىء الغالي
وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية
وفيهم الوصية والوراثة الآن إذ رجع الحق إلى
أهله ونقل لى منتقله) (الخطبة رقم 2).
وقوله (عليه السلام): (أين الذين زعموا انهم
الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا، ان
رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا
وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى، ان
الأئمة من قريش غُرسوا في هذا البطن من هاشم،
لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم)
(الخطبة رقم 152).
وقوله (عليه السلام): (وخلف فينا راية الحق،
من تقدمها مرق، ومن تخلَّف عنها زهق، ومن
لزمها لحق).
وقوله (عليه السلام): (هم عيش العلم وموت
الجهل.. لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، وهم
دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق
إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه وانقطع
لسانه عن منبته) (الخطبة رقم 239).
وقوله (عليه السلام) عن نفسه: (وأنا من رسول
الله كالضوء من الضوء والذراع من العضد)
(الكلام رقم 451).
وقوله (عليه السلام): (لقد علمتم اني أحق بها
من غيري) الخطبة رقم 74.
وقوله (عليه السلام): (أما والله لقد تقمصها
ابن أبي قحافة وانه ليعلم ان محلي منها محل
القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى
إلىَّ الطير) (الخطبة رقم 3).
وفي ضوء ذلك يتضح ان الولاية لعلي (عليه
السلام) في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله)
لا تعني المحبة والنصرة،
لان هذين الأمرين من حق كل مؤمن، و علي (عليه
السلام) أول المؤمنين، وليست لغيره سوابق في
الإيمان والجهاد كسوابقه بل ليست لغيره من
الطاعة والانقياد لله ورسوله كانقياده وطاعته،
وحقه في المحبة والنصرة محفوظ من هذه الناحية،
وإنما أراد بالولاية تلك الولاية الخاصة
بالرسول دون غيره من المؤمنين، هذه الولاية
التي تجعل المؤمنين إلى آخر الدنيا في جانب
والرسول في جانب آخر، وولاية الرسول التي
ينفرد بها هي ولاية الله تعالى، وولاية الله
تعالى لا تقف عند حدود المحبة والنصرة، بل
تمتد إلى جانب الإتباع والطاعة والاحتكام
إليه، والوقوف عند أمره ونهيه حيا كان او
ميتا،
وهذا هو المعنى الذي فهمه أبو واثلة واستعظمه،
لان معناه عليه ان يرتبط بعلي (عليه السلام)
كارتباطه برسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى
بعد موته وهكذا كان أمره إذ عرف أبو الطفيل
عامر بن واثلة انه من شيعة علي (عليه السلام)
وشهد مشاهده كلها، وبقي أبو الطفيل بعد
علي (عليه السلام) وقد سأله معاوية يوما كيف
وَجْدُك على خليلك أبي الحسن يا بن واثلة قال:
كحب الفاقد لأخيها وزوجها وولدها وإلى الله
تعالى أشكو التقصير.
ثالثا:
وإذا أراد القارئ الكريم مزيدا من التفصيل عن
حديث الغدير وما أثير حوله من اشكالات سندية
ودلالية وأجوبة علماء الشيعة على ذلك فعليه
بكتاب الغدير ج 1 للعلامة الاميني (رحمهم
الله) وكتاب عبقات الأنوار ج6 - 9 تعريب
وتلخيص العلامة الميلاني فأنهما أوسع وافضل ما
كتب في هذا الباب.
الحلقة الثانية
الفصل الرابع:
السقيفة برواية عمر بن الخطاب
قال البغدادي: ان ما جرى في السقيفة كان مجرد
ترشيح والبيعة تمت في المسجد دون تهديد أو
إكراه.
اقول: روايات كتب الحديث والسيرة تثبت ان الذي
جرى في السقيفة بيعة وليس مجرد ترشيح.
نص الشبهة
قال البغدادي:
(ان ما جرى في السقيفة من نقاش... لم يكن ذلك
تمام الشورى بل انه كان مجرد ترشيح والبيعة
تمت في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله). وقد
فعلوا ذلك طواعية دون تهديد أو قوة سلاح).
الرد على الشبهة
أقول: ان قوله هذا خلاف ما ثبت في كتب السيرة
والحديث والتاريخ وخلاف المشهور عند أهل
السنة.
حيث ذكرت هذه الكتب ان الذي جرى في السقيفة
بيعة وليس مجرد ترشيح ومن ثم استشهد فقهاء
السنة كالماوردي وغيره بما جرى في السقيفة من
بيعة عمر، وأبي عبيدة، واسيد بن حضير، وبشير
بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة، لأبي
بكرعلى صحة انعقاد الحكم ببيعة خمسة.
نعم الذي ذكره البغدادي هو رأي البعض من علماء
السنة حيث يرى ان حكومة أبي بكر انعقدت ببيعته
العامة في المسجد دون بيعته في السقيفة.
قصة السقيفة:
وإلى القارئ الكريم نص كلام عمر بن الخطاب حول
السقيفة كما رواه البخاري في صحيحه قال:
(حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني إبراهيم
بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال:
ان عمر قال في أول جمعة قدمها من حجته
الأخيرة:
إنه بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو قد مات
عمر بايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما
كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد
كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من
تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر.
من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا
يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.
وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى
الله عليه وسلم.
أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة
بني ساعدة.
وخالف عنا علي والزبير ومن معهما.
واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر.
فقلت لأبي بكر يا أبا بكر انطلق بنا إلى
إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم،
فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان،
فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا أين تريدون
يا معشر المهاجرين، فقلنا نريد إخواننا هؤلاء
من الأنصار، فقالا لا عليكم أن لا تقربوهم،
اقضوا أمركم فقلت والله لنأتينهم، فانطلقنا
حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل
مزَّمِّل بين ظهرانيهم، فقلت من هذا؟ فقالوا
هذا سعد بن عبادة، فقلت ما له؟ قالوا يوعك.
فلما جلسنا قليلا، تشهد خطيبهم فأثنى على الله
بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله
وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط،
وقد دفَّت دافَّةٌ
من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من
أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر.
فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت قد زوَّرت مقالة
أعجبتني، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر،
وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم
قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه.
فتكلم أبو بكر فقال ما ذكرتم فيكم من خير
فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا
الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد
رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما
شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو
جالس بيننا.
فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم
فتضرب عنقي... أحب إليَّ من أن أتأمر على قوم
فيهم أبو بكر...
فقال قائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك،
وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر
قريش.
فكثر اللغط وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من
الاختلاف، فقلت ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده
فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار.
ونَزَوْنا على سعد بن عبادة.
فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة، فقلت قتل
الله سعد بن عبادة.
قال عمر وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من
أمر أقوى من مبايعة أبي بكرخشينا إن فارقنا
القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم
بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما
نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلا على غير
مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي
بايعه تَغِرَّةَ أن يقتلا).
وفيما يلي شرح لفقراتها التي تتصل بموضوعنا:
قوله: (فلا يغترن امرؤ ان يقول إنما كانت بيعة
أبي بكر فلتة وتمت إلا وإنها قد كانت كذلك
ولكن الله وقى المسلمين شرها).
نسب البلاذري هذا القول إلى الزبير، ونسبه ابن
أبي الحديد إلى عمار، و(الفلتة كما قال ابن
الاثير وغيره هي الفجأة وقال ابن الأثير أيضا
ومثل هذه البيعة جديرة بأن تكون مهيجة للشر
والفتنة فعصم الله تعالى من ذلك ووقى).
أقول: والأمر الفجائي هو ما لم يتوقع حدوثه،
ومعنى ذلك ان بيعة أبي بكر لم تكن متوقعة ولا
مترقبة، لان الأعناق كانت ممدودة إلى
علي (عليه السلام) قال ابن اسحق وكان عامة
المهاجرين وجل (كل) الأنصار لا يشكون ان
عليا (عليه السلام) هو صاحب الأمر بعد رسول
الله (صلى الله عليه وآله))
وذلك لشدة لصوقه بالنبي (صلى الله عليه وآله)
وسابقته المتميزة والنص عليه في الغدير وغيره.
وقوله (وقى الله شرها) يفيد ان بيعة أبي بكر
التي فوجئ المسلمون بها ولم يكونوا يترقبونها
كانت تنطوي على الشر وسفك الدم والسبب في ذلك
هو أنَّ صاحب الحق الشرعي (علي (عليه السلام))
قد أبى ان يبايع ودعا الأنصار إلى نصرته ولو
كانوا أجابوه لكان هناك قتال بينه وبين القوم
وتفصيل ذلك في الفقرة الآتية.
قوله: (وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله
نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا
واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة. وخالف
عنا علي والزبير ومن معهما. واجتمع المهاجرون
إلى أبي بكر.).
الذي يظهر من بعض الروايات ان عليا (عليه
السلام) وبني هاشم كانوا مشغولين بدفن
النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي اثناء ذلك
اجتمعت فئة من الأنصار في بيت سعد بن عبادة
يتداولون أمر الحكم، ثم انضم إليهم أبو بكر
وعمر وأبو عبيدة وسالم مولى ابي حذيفة، ثم
بويع لأبي بكر، وامتنع علي (عليه السلام) ومن
معه من بني هاشم وغيرهم عن بيعته واجتمعوا في
دار فاطمة (عليها السلام).
قال ابن قتيبة: (وخرج علي (عليه السلام) كرم
الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله
عليه وآله)على دابة ليلا في مجالس الأنصار
تسألهم النصرة، فكانوا يقولون يا بنت رسول
الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ولو ان زوجك
وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به،
فيقول علي (عليه السلام) أفكنت ادع رسول
الله (صلى الله عليه وآله) لم ادفنه في بيته
واخرج أنازع الناس سلطانه، فقالت فاطمة ما صنع
أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما
الله حسيبهم وطالبهم).
وفي ضوء ذلك فان تصوير الواقع التاريخي بعد
وفاة الرسول بوجود ثلاث كتل ليس صحيحا، لان
كتلة الأنصار المزعومة لم تكن كتلة بالمعنى
الذين كانت عليه الكتلة القرشية، وإنما كانت
اجتماعا طارئا، لا يبعد ان يكون الحزب القرشي
قد دفع إليه بواسطة عدد من أعضائه من الأنصار.
أما علي (عليه السلام) وبنو هاشم ومن معهم فقد
صاروا كتلة في قبال الحزب القرشي حين رفضوا
بيعة أبي بكر.
والذي يظهر بشكل واضح من نصوص تاريخية وحديثية
متعددة ان الحزب القرشي كان له وجود زمن
النبي، وكانت أطروحته تتمثل بشعار (حسبنا
كتاب) الله وبالموقف السلبي من علي (عليه
السلام).
و في قبال ذلك كانت مجموعة من الصحابة كأبي ذر
وعمار وسلمان وغيرهم، قد عرفت في عهد
النبي (صلى الله عليه وآله) بأنها شيعة
علي (عليه السلام) استجابة لأمر الله ورسوله
في علي (عليه السلام).
المجتمعون في دار فاطمة (عليها السلام):
وقد ذكر المؤرخون في عداد من تخلف عن بيعة أبي
بكر في بيت فاطمة مع علي(عليهما السلام)
والزبير كلا من العباس بن عبد المطلب وعتبة بن
أبي لهب وسلمان الفارسيوأبي ذر الغفاري وعمار
بن ياسر والمقداد بن الأسود والبراء بن عازب
وأبي بن كعب.
وقد ذكر ابن عبد ربه ان أبا بكر بعث عمر بن
الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمةوقال له: ان أبوا
فقاتلهم فاقبل بقبس من نار على ان يضرم عليهم
الدار فلقيته فاطمة فقالت يا ابن الخطاب اجئت
لتحرق دارنا قال نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه
الأمة.
روى الطبري قال أتى عمر بن الخطاب منزل
علي (عليه السلام) وفيه طلحة والزبير ورجال من
المهاجرين فقال: (والله لأُحرِّقنَّ عليكم أو
لتخرجن إلى البيعة).
وقد ذكر أصحاب الحديث عن الزهري: (ان
عليا (عليه السلام) وبني هاشم بقوا ستة اشهر
لم يبايعوا حتى ماتت فاطمة).
وقوله (عليه السلام): (ولم يكن لي معين إلا
أهل بيتي فضننت بهم عن الموت).
وقوله: (لو وجدت أربعين ذوي عزم!).
وفي كتاب معاوية إلى علي (عليه السلام) (وأعهدك
أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار، ويداك في
يدي ابنيك الحسن والحسين، يوم بويع أبو بكر
الصديق، فلم تدع أحدا من أهل بدر والسوابق إلا
دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك،
وأدللت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب
رسول الله، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو
خمسةولعمري لو كنت محقا لأجابوك...، ومهما
نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك وهيجك
لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم).
قوله: (وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل
أبي بكر).
أقول: هذا الوصف لا ينطبق على أبي بكر إذ لم
تكن له قرابة خاصة من النبي أو سابقة جهادية
مميزة أو نص يؤهله لذلك بخلاف علي (عليه
السلام) حيث جمع ذلك كله.
قوله: (ولا نعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من
قريش).
وفي رواية احمد بن حنبل عن مالك بن انس (ولن
تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش)
وفي رواية ابن اسحق (قد عرفتم ان هذا الحي من
قريش بمنزلة من العرب ليس بها غيرهم وان العرب
لا تجتمع إلا على رجل منهم...).
الهوامش
قال الذهبي في كتابه سير أعلام
النبلاء ج14: 277: (جمع الطبري (ابن
جرير) طرق حديث غدير خم في أربعة
أجزاء رأيت شطره فبهرني لسعة رواياته
وجزمت بوقوع ذلك. ونقل عنه ابن كثير
في تاريخه ج5: 214 انه قال (وصدر
الحديث (من كنت مولاه فعلي مولاه)
متواتر اتيقن ان رسول الله 9 قاله،
واما (اللهم وال من والاه) فزيادة
قوية الاسناد).
أقول: وقد ذكر ياقوت في معجم الأدباء
ج18: 83-85. ان بعض الشيوخ ببغداد قال
بتكذيب حديث غدير خم وقال ان علي بن
أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي
كان رسول الله 9 بغدير خم فبلغ أبا
جعفر الطبري ذلك فابتدأ بالكلام في
فضائل علي بن أبي طالب وذكر طرق حديث
غدير خم، قال ياقوت قال أبو بكر بن
كامل حضرت أبا جعفر الطبري حين حضرته
الوفاة فسألته ان يجعل كل من عاداه في
حل فقال كل من عاداني وتكلم فيَّ إلا
رجلا رماني ببدعة قال ياقوت ودفن ليلاخوفامن العامة
لانهم كانوا يتهمونه بالتشيع.
تاريخ الطبري ج 3: 202. روى الذهبي
في ميزان الاعتدال ج3: 108 وابن حجر
في لسان الميزان ج4: 188 في ترجمة
علوان بن داود قول أبي بكر في مرضه
الذي توفي فيه (وددت أني لم اكشف بيت
فاطمة وتركته وان اغلق على الحرب)
ورواه أيضاالمسعودي في مروج الذهب
ج2:309والطبري في تاريخه ج3: 430.
واقدم مصدر تاريخي روى ذلك هو كتاب
الأموال: 174 لأبي عبيد (ت 224 هجـ)
غير انه كنى عنها ولم يصرح بها قال
قال أبو بكر (وددت أني لم اكن
افعل كذا وكذا لخلة ذكرها)(قال أبو
عبيد لا أريدذكرها).
|